إحدى القصص العالقة فى ذهنى منذ أكثر من عشرين سنة حدثت فى أثناء الزلزال الذى ضرب مصر عام 1992. لا أدرى مدى دقّتها، لكن المهم عندى مدى شيوعها فى ذلك الوقت. القصة مروية على لسان شخص ظل تحت أنقاض عمارته المنهارة فى الإسكندرية عدة أيام، كان خلالها يشرب من بوله، وقد حاول أن يقنع ابنته بأن تفعل مثله فرفضت. الأب نجا، والطفلة ماتت. فى هذه القصة القصيرة جدًّا أكثر من نقطة تلفت نظرى: 1- من الصعب على المرء أن يختار اختيارات حلوة إن كانت خياراته المتاحة ضيّقة. 2- فى الحياة العملية تتضح العلاقة بين الخيارات والاختيارات، ليس فقط فى موقف صعب، الاختيار فيه بين الحياة والموت، مثل موقف الوجود تحت أنقاض مبنى متهدّم، إنما أيضًا فى اختيارات تتعلق بمكان السكن، ونوع الوظيفة. أنا أرفض أن أعمل فى وظيفة كذا أو كذا، ولو على رقبتى، موقف يبدو مبدئيًّا، لكنه فى الحقيقة غير موجود إلا فى البراح. براح مادى، كأن يكون لديك ما يعيلك لفترة قادمة، أموال فى البنك، أو أسرة تنفق عليك، أو أو. أما حين يضيق البراح جدًّا، ويخنقك، فعليكِ أن تختارى من بين الموجود لزامًا. أو تنتحرى. هذا ما فعله المواطن الذى شرب بوله. 3- الخيار هنا يحتاج إلى نضوج، وإدراك للعواقب. ابنته الطفلة لم يكن لديها هذا بحكم سنّها، لذلك رفضت الخيار المعروض عليها وأصرّت على رفضه. 4- فى القصة أيضًا علاقة لافتة بين الإحساس المعنوى بالخيار والإحساس «الحسى» به. كثير من مواقفنا السياسية تشبه هذا. الخومينى حين قبل وقف إطلاق النار مع العراق، قال وهو يعلن ذلك «كأنى أتجرّع السم». لعله يقصد أنه قبل بخيار أن يتجرّع السم بنفسه، بدل أن تشقى بلده بما هو أكثر. والخومينى طبعًا اختار أن يتجرّع السم لأن المسألة تحولت إلى حياة أو موت بالنسبة إلى أمته. زلزال يشبه الزلزال المشار إليه أعلاه، وأنقاض تشبه الأنقاض المشار إليها أعلاه. لكن ما معنى هذا؟ معناه أن عملية الاختيار تبدأ من عملية التقييم، تقييم الحالة. هل مصر الآن كبيت منهار أم لا. هل كان البلد على حافة الحرب الأهلية أم لا؟ حين نجاوب على هذه الأسئلة نستطيع أن نقرر، هل نتجرع السم، هل نتجرع البول، هل نقبل المرار أم لا. لا يمكن الفصل بين التقييم وبين الاختيار. والتقييم يختلف من إنسانة إلى إنسانة. بصيغة أخرى. لا يمكن لأشخاص يعملون فى جمعيات مدنية، أو فى الصحافة، أو فى الإعلام، وبالتالى يستطيعون أن يعيلوا أنفسهم فى ظل هذا الوضع أن يقارنوا خياراتهم بخيارات أشخاص يعملون فى مجال السياحة، أو سواقة التاكسى، أو فواعلية. لا يمكن. لماذا؟ لأن تقييم هؤلاء للوضع يختلف عن تقييم هؤلاء. بالنسبة إلى الفريق الأول الموضوع لم يصل إلى درجة الاختناق تحت الأنقاض. وبالتالى ليس مسألة حياة أو موت. أو لنقل ليس مسألة إشباع الأطفال أو جوعهم. أما بالنسبة إلى الفريق الثانى فالموضوع وصل إلى هذه الدرجة. بالنسبة إلى الفريق الأول فإن شرب البول شىء شنيع. بالنسبة إلى الفريق الثانى فإن شرب البول هو الخيار الوحيد المنطقى، وعدم شربه قصور فى النظر لا يصح لإنسانة ناضجة. وهنا. ها هنا. ها هنا. تكمن براعة السياسة. لكى تكونى سياسية جيدة عليكِ أن لا تسمحى للوضع بالوصول إلى نقطة يعتبرها معظم الناس حدًّا فاصلًا بين الحياة والموت، بين الإشباع والجوع، بين الستر والحاجة. لأن خياراتهم وقتها ستضيق جدًّا. وكلما ادّعيت لهم أن لا، أن الخيارات أوسع من ذلك، كلما أيقنوا أنكِ تملكين قائمة غير قائمتهم. أنكِ تعيشين فى ظروف غير ظروفهم. أنكِ لا تشعرين بهم. هل تفهميننى؟ براعة السياسية أن تعزل نفسها عن ظروفها المعيشية، وأن تطلع على قائمة خيارات المواطنين الذين تمثلهم. لكى تدرك ما المتاح حقيقةً، ما الموجود فى قائمتهم، فى تلك اللحظة من الزمن. حين يخرجون من تحت الأنقاض تلك قصة أخرى.