عندما علمت باستئناف العلاقات بين الأزهر والفاتيكان تلاحقت فى خَلَدى ثلاثة مشاهد خرجت تباعًا من صندوق الذكريات لتجسِّد فى ذات الوقت الركيزة الأساسية لوطننا الأصيل فى مواجهة أخطر تحديين يهددان حاضره ومستقبله. يقع المشهد الأول فى مدرسة جمعية الصعيد للتربية والتنمية بطهطا محافظة سوهاج حيث جرى تقليد بالمنطقة التعليمية المختصة بتكريم أوائل المرحلة الابتدائية فى حفل سنوى شبه رسمى. تصادف فى عام من أعوام الإرهاب أن فاز بالتساوى بالمركز الأول تلميذان: محمد وجرجس. إلا أن المنطقة أصرَّت على عدم قبول أكثر من تلميذ عن كل مدرسة فى هذا الاحتفال، فقال الناظر لمحمد: «روح إنت يا محمد»، ردّ محمد: «لع! ماروحش من غير جرجس». فاستدار الناظر نحو جرجس: «روح إنت يا جرجس»، رد جرجس: « لع! ماروحش من غير محمد». وكانت النتيجة فى النهاية، وبعد المفاوضات داخليًّا وخارجيًّا، أن الإصرار العنيد للطفلين انتصر على المنطقة التعليمية بقبولها الاثنين معًا فى الاحتفال. أما عن المشهد الثانى فقد حدث فى القاعة الكبرى لجامعة الأزهر حيث دُعِيتُ من د.جمال ماضى أبو العزايم، رئيس الجمعية الإسلامية للصحة النفسية للطفل، إلى لقاء عامّ تتبادل فيه الجمعيات والهيئات الناشطة خبراتها فى هذا المجال. حدث ذلك قُبَيل زلزال 12 أكتوبر 1992 بيوم أو يومين. وقبل أن ألقى كلمتى عن تجربة جمعية الصعيد قدّمنى د.محمد شعلان، رئيس قسم الطب النفسى بجامعة الأزهر، ببضع كلمات رقيقة أنهاها بالآتى بهدوئه المعهود: «وإنى أتساءل: لماذا الأستاذ أمين فهيم هو أول مسيحى يدخل هذه القاعة منذ القرن الحادى عشر؟!» (همهمة فى القاعة). وبعد عرضى الذى لم يستغرق 15 دقيقة على جمهور يقترب من عدة آلاف من الحضور معظمهم طلبة وطالبات قوبلتُ مذهولا بعاصفة من التصفيق لا تتناسب مع كلمتى، انطلقَت بحماس من مئات من شباب وشابات مسلمين ومسلمات متحمسين ومتحمسات، تحية حارة «لأول مسيحى يدخل هذه القاعة منذ القرن الحادى عشر!». ننتقل الآن إلى المشهد الثالث، وهو مائدة الإفطار الرسمى الذى أقامه الإمام الأكبر وقتئذ فضيلة المرحوم الشيخ محمد سيد طنطاوى على شرف وزير خارجية الفاتيكان رئيس الأساقفة المنسنيور جان لوى توران (حاليًّا كاردينال ورئيس المجلس البابوى للحوار بين الأديان). دُعِيتُ إلى هذا الإفطار بالإضافة إلى سائر سفراء مصر السابقين لدى الكرسى الرسولى، وحظيت بالجلوس على ثانى كرسى إلى يمين الشيخ طنطاوى، الأمر الذى جعلنى أشهد من قُرب مشهدًا فريدًا جميلًا ومعبِّرًا بصمت عن الألفة الروحية السامية التى كانت تجمع بين المسؤولين الكبيرين الجالسين على جانبَى المائدة ومشتبكَى الأيدى عبرها، متبادلَين الحديث هامسَين فى مواضيع راقية المستوى لمدة لا تقلّ عن عشر دقائق فى هذا الوضع. ما مغزى تسجيل المشاهد الثلاثة أعلاه؟ طفلان صعيديان يفرضان على السلطات وحدتهما الوطنية بالتساوى بينهما فى الحقّ، ثم جمهور إسلامى وفير من الشباب والشابات يحيُّون بحماس «المسيحىّ المجهول» الغائب والآتى الآن بينهم مستكملًا بمفرده الوحدة الوطنية المرجوّة، ثم على مستوى القمة التلاؤم القوى والهادئ والروحانى الذى يضم قطبين رفيعين للدينين الإسلامى والمسيحى، وهذا مع الأخذ فى الاعتبار أن هذه المشاهد ليست إلا «عيِّنات» معبِّرة ببلاغة عن واقع يستدعى لتسجيله آلاف المؤلفات من القصص والدراسات؟ ما مغزى تسجيل هذه العينات؟ ليس بالطبع من أجل التقليل من الأهمية القصوى للحوار بين الإسلام والمسيحية على مستوى القمة الدولية، ولا من أجل التخدير بشأن مشكلاتنا الضخمة الراهنة، ولكن من أجل إقامة الدليل على حقيقة تاريخية جميلة ومطمْئِنة للغاية، ألا وهى الصلابة الفولاذية لوحدتنا الوطنية التى لا تُقهَر رغم تراكم الغبار عليها، والتى بفضلها قاومنا الغزاه وانتصرنا على الفتن بقوة إيماننا وخالص حبنا لوطننا. هذا فى الماضى، أما اليوم فمشكلتان أساسيتان تهددان كياننا: التمييز الدينى من ناحية، وإرهاب التنظيم الدولى للإخوان المسلمين من ناحية أخرى، موضوعان خطيران للغاية تختلف بشأنهما الرؤى، لا سيما بشأن التمييز الدينى، فالبعض ينكره رغم عدم وصول لجنة الخمسين إلى حلّ بشأن كوتة كل من الأقباط والمرأة والشباب، والبعض الآخر يواجه التمييز بتمييز مقابل، مع الأخذ فى الاعتبار أن مسؤولية مواجهة الإرهاب الإسلامى تقع أساسًا على الحكومة والجيش، فى حين أن عبء معالجة التمييز الدينى يقع على عاتق الحكومة ودور العبادة والشعب. جدير بالذكر إيجابيًّا أن موضوع التمييز كتب عنه أخيرًا العديد من المفكرين عارضين لعلاجه بعض الحلول يمكن تلخيصها تلخيصًا شديدًا فى الآتى مع إضافة اجتهادنا الشخصى: إنشاء هيئة رسمية مكوَّنة من إخصائيين لامعين فى كل المجالات المعنيَّة مثل التاريخ وعلم النفس العامّ وعلم النفس الجماهيرى والتعليم والتربية والتنشئة والاجتماع وحقوق الإنسان والقانون، على أن تكون مهمة هذا الجهاز الحيوى أساسا دراسة الظاهرة بدقة ثم وضع خطة طَمُوح هدفها بعيد المدى القضاء على التمييز، مع وضع خطط أخرى قريبة المدى تشترك فى تنفيذها القوى الشعبية. هذا مع منح هذه الهيئة سلطة التصدى لحالات التمييز القائمة التى قد تحدث فى المستقبل، كما يكون لها سلطة تقديم مشروعات بقوانين طبقًا لنصوص الدستور الجديد. ما من شك أنه فى استطاعتنا اليوم الاشتراك فى رسم مستقبلنا دون أن يدعونا أحد إلى تحمُّل مسؤوليتنا. نستطيع معًا أن نطرد الغبار الكثيف المتراكم على القاعدة الفولاذية لوحدتنا الوطنية. خلاص.. العيال كبرت.