فى مدينة تضج بناطحات السحاب وتشع رائحة الثراء من مولاتها التجارية ومجوهرات وسيارات قاطنيها، يوجد رجل فقير هندى يعمل سائقًا على سيارة إحدى الشركات ويدعى (صديق). يخرج صديق كل يوم بعد تمام عمله ليشترى كميات هائلة من أسماك السردين، مقتطعًا ثمنها من راتبه الصغير. يضعها فى صندوق سيارته ويقطع بها شوارع المدينة. يقصد عدة أماكن يعرفها جيدًا. وفى انتظاره تجتمع قطط المدينة استعدادًا لوجبة اليوم. تندفع نحوه القطط تلتهم الطعام فى شهية، بينما يرحل صديق حاملاً صندوق الطعام متجهًا نحو منطقة جديدة أو ناصية شارع آخر تجتمع فيها قطط أخرى فى انتظار وجبته. (إطعام خمسمئة).. هو اسم الفيلم التسجيلى الذى شاهدته بمهرجان أبو ظبى هذا العام وسط أعضاء لجنة تحكيم الفيلم القصير الذين كنت واحدة منهم. والمدينة فى الفيلم كانت أبو ظبى. ورغم أن المستوى الفنى للفيلم كان فى حدود المتوسط، فإن حكاية هذا السائق الهندى لم تفارقنى بسهولة، فقد أسرنى هذا الرجل الذى يعبأ كاهله بالديون والذى يتحمل ملاحقة سكان أبو ظبى له ومحاولاتهم لمنعه من إطعام هذه القطط بحجة أنه يساهم فى انتشارها بالمدينة، والذى حوَّل منزله الصغير المتواضع إلى ملجأ لقطط الشوارع، ترتع فى كل مكان فيه، تنعم بالدفء والطعام الذى يقدمه لها صديقها الهندى، تتصرف براحة واطمئنان كما لو كانت فى أرحام امهاتها. ويحكى صديق عن زوجته التى تعيش فى الهند مع ابنه، التى تشكو من أنه لم يذهب إلى زيارتها منذ عامين. ويبرر الرجل عدم سفره إلى الهند رغم اشتياقه لزوجته ولطفله بأنه يعلم جيدًا أنه إذا سافر إلى هناك فإن تلك القطط سوف تموت من الجوع. وأدهشتنى كثيرًا تلك المفارقة حينما انتبهت أن أسفل تلك البنايات الشاهقة العظيمة تهلك كائنات صغيرة كل يوم بحثًا عن فتات يبقيها على قيد الحياة دون أن ينتبه لهم أحد. فقط هذا الرجل الذى ربما يكون قد اختبر الجوع وقسوته يومًا فاستطاع أن يقرژه فى وجوه تلك القطط الضالة ويتألم له. ففى مدينة نظيفة مثل أبو ظبى، لا تعرف طرقاتها بقايا ونفايات البشر ولا صناديق القمامة المكتظة بنفايات توفر عادة ولائم سهلة لقطط الشوارع، فى هذه المدينة لن تجد هذه القطط تلك الوجبة اليومية الوحيدة التى ستبقيها على قيد الحياة، ولا يوجد أيضًا مَن يتوحد مع حرمانها وحاجتها سوى هذا الفقير الهندى.