أعترف أن السينما، بل والفن بوجه عام يراهن على الرحابة الفكرية، بل هو قائم فى جانبٍ منه على الجمع بين الأضداد والمتناقضات، بل والمستحيلات، وكلما كان «البَوْن» شاسعًا والمسافة بعيدة يصبح للفن دور أكبر كما أن المتلقى عادة تستهويه تلك التباينات بين الأسود والأبيض والثلج والنار، وهو ما حرص الكاتب والمخرج والممثل غازى البعليوى على أن يقدمه فى فيلمه «سلام بعد الزواج» الذى عُرض فى قسم السينما العالمية بمهرجان «أبو ظبى». لم أرتح إلى «برمجة» الفيلم فى مهرجان عربى، ولكنى فى نفس الوقت لا أصادر على حق الآخرين فى أن يطلوا على الفن بزاوية رؤية مختلفة وأن يقرؤوا العمل الفنى مجردًا بعيدا عن الظلال القومية المتجذرة فى ضمير جيل عاصر ولا يزال الصراع العربى الإسرائيلى. أنا أدرك بالطبع أن هناك أفلاما يقدمها عرب داخل إسرائيل يتجاوزون فيها الخطوط الحمراء فى العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهم من نُطلق عليهم فى الإعلام «عرب 48» الذين ظلوا فى أراضيهم بعد الاحتلال، ولكن ما نحن بصدده هو حالة مختلفة، فيلم أمريكى الإنتاج ومصنوع بأيدٍ عربية. هل تتقبل المشاعر الوطنية فيلما يتناول علاقة بين فلسطينى الجذور وفتاة إسرائيلية التقيا فى أمريكا واجتمعا على مصلحة مشتركة، زواج تحركه مشاعر جنسية وهدف مرحلى للحصول على «الجرين كارد» الذى يتيح لهما الإقامة بدون معوقات إدارية وقانونية. للوهلة الأولى صدمتنى تلك الفكرة، فلا يمكن أن تقدم علاقة بين فلسطينى وإسرائيلية بدون أن يصبح الوطن طرفا فاعلا فى التفاصيل. الفيلم لا يشفع له أنه أمريكى الجنسية والإنتاج وكل عناصره عربية وفلسطينية، البطلة هى أشهر وأهم نجمة على الساحة الفلسطينية الآن هيام عباس، وشاركت أيضا فى الإنتاج، والبطل والكاتب والمخرج هو غازى العليوى الفنان الأردنى. لا أستطيع أن أقرأ الفيلم باعتباره يدعو للسلام مع إسرائيل رغم أن عنوانه هو «سلام بعد الزواج»، فإن مفتاحه هو السخرية الاجتماعية وليست السياسية، وهدف البطل هو البحث عن زوجة، فهو شاب وحيد والديه يبحث عن زوجة ولا يستطيع التحكم فى مشاعره الجنسية وضبطها. أهله يريدون زوجة مسلمة وتفشل المحاولة فى الحصول على زوجة تنطبق عليها الشروط فى أمريكا، وتأتى المحطة الثانية عندما يعود إلى وطنه ويوم الزفاف يجد نفسه فى مواجهة مع فتاة مسلمة فلسطينية، ولكنه لا يشعر بالقبول وفى اللحظة الأخيرة يجرى بعيدا عنها، ولا ينقذه من الفتك به سوى الجنود الإسرائيليين على الجانب الآخر من الحدود، ويعود إلى أمريكا وفى أثناء البحث يعثر على فتاة نكتشف أنها يهودية إسرائيلية ويتم الزواج المشترك حيث يعقد القران الحاخام مع الشيخ، وكل منهما فى أثناء الفرح يعلو صوته مؤازرا موقفه العقائدى والدينى والعرقى. تصبح الزوجة حاملا وهنا يتجدد السؤال عن الطفل القادم، ديانته وجنسيته، فهو طفل مشترك مسلم ويهودى، فلسطينى وإسرائيلى معا، ويثور أهله فى فلسطين ويشعلون النيران فى صورته هو وأمه وأبيه احتجاجا. مثل هذه الأفلام تتحرج العديد من المهرجانات العربية فى عرضها، رغم أننا بصدد فيلم أمريكى مصنوع بأيدٍ عربية، بل وفلسطينية، والعائلة تعبر عن رفض هذه الزيجة لأسباب دينية ووطنية، ولكن الشاب نفسه دراميا تحركه الغريزة والمصلحة ولا يفكر سوى فى إفراغ طاقته الجنسية والحصول على «الجرين كارد». الفنانة الفلسطينية هيام عباس ليست مجرد فنانة كبيرة، بل هى عنوان للممثلات الفلسطينيات، ولهذا كرمها مهرجان «أبو ظبى» هذه الدورة بجائزة إنجاز العمر، وتاريخها مرصع بالعديد من اللآلئ، إنها صاحبة أفلام لعبت دورا نضاليا ومع مخرجين لهم مواقفهم المعروفة، ومن أشهرها «عُرس الجليل» ميشيل خليفى و«الجنة الآن» هانى أبو أسعد»، وكان هذا الفيلم على بعد خطوات قليلة من اقتناص جائزة أفضل فيلم أجنبى قبل تسع سنوات من مسابقة الأوسكار، وأيضا فيلم يسرى نصر الله «باب الشمس» الذى كان مؤازرا لحق الفلسطينيين فى العودة لأراضيهم. بطل الفيلم والمخرج الفنان الأردنى الجذور غازى البعليوى «مستوحيا أسلوب الاستاند أب كوميدى» حيث يواجه الفنان جمهوره وبقدر كبير من العفوية، ومن الممكن أن يرتدى البطل الطاقية اليهودية واللحية وخصلات الشعر وغيرها. مثل هذه الأفلام تلعب بالنار ويظل عرضها محفوفا بالمخاطر، أراها أشبه باللعب بالكبريت، فهى قابلة للانفجار فى كل لحظة.