تحكيم العقل و الإحساس بالقيم .. صفتان رئيسيتان هما اللتان ترتكز عليهما أى مدنية راقية .. تلك هى النتيجة التى توصل إليها "كلايف بل" فى كتابه البحثى الممتع "المدنية" .. و هما الصفتين اللتين تؤدى كلاً منهما للأخرى بشكل تلقائى .. فبعد ان يبدأ الإنسان الهمجى فى إكتساب شعوره بذاته سوف يجد نفسه بدون أن يشعر ينحو إلى التأمل .. التأمل فى كل شىء .. فى خبايا نفسه البشرية و فى تفاصيل الكون من حوله و فى السبب الحقيقى لوجوده على هذا الكوكب .. مما سوف يقوده بدون أن يشعر و بشكل تلقائى تماماً إلى تحكيم عقله و تدريب حاسة النقد الذاتى لديه ليبدأ فى إدراك أن تلك الكتلة الهلامية الأشبه بالبالوظة والمحفوظة بعناية بداخل جمجمته و التى إتفقنا على تسميتها "العقل" هى المعيار الرئيسى للحكم على الأمور .. و هو ما يقوده بالتالى إلى الإحساس بالقيم الحقيقية للاشياء ليبدأ فهمه الحقيقى لتلك الحياه المعقدة التى تكتنفنا بداخلها .. حيث يبدأ الإنسان فى إيثار الخير الخفى الآجل على الخير الواضح العاجل و إيثار التربية التى تعلمنا كيف نعيش على التربية التى تعلمنا كيف نكسب .. هذا الإيثار يعتبره "بل" ظاهرة اخرى من ظواهر الحس المتمدن الرفيع .. إلا أننا ينبغى فى الوقت نفسه ان نعرف أن إعلاء العقل ليصبح هو الحكم طوال الوقت يعد درباً من دروب المستحيل خاصةً فى المجتمعات التى تعانى من مشاكل حياتية اساسية لها علاقة بغريزة الإستمرار على قيد الحياه و فى هذا الصدد يقول "بل" .. " إن الهمجى الذى يتعرض لخطر يهدد حياته ثم يقف ليفكر أولاً يتعرض بدرجة قصوى إلى خطر الوقوف الأبدى .. لذلك فإنه شأنه شان الطيور يعمل بإملاء الغريزة و يعتمد عليها إلى الحد الذى لا يجعل لعقله سوى فرصة يسيرة جداً لكى يكون ذا أثر فعال .. فإعلاء الغرائز قاتل للعقل .. كما أنه لا يمكن للمتوحشين والهمج أن يتصفوا بإحساس رقيق للقيم .. حيث أنك لن تجد رجلاً من الإسكيمو مثلاً يمكنه أن يدرك أن القيمة البعيدة للأنشودة أكبر من القيمة القريبة للبيضة المحمرة .. فالقيمة المباشرة عنده للبيضة المحمرة محسوسة جداً و ضرورة ماسة .. و من العبث أن تبين لرجل يعيش معرضاً فى حاضره للموت جوعاً أو بسبب برد الصقيع أن التربية الحرة ( ذات الصلة بفن الحياه ) أرقى من التربية العملية ( ذات الصلة بفن الكسب ) إذ لابد له قبل أن يُقدِر لبعض الحالات العقلية قدرها ان يكون على درجة من الأمان لشخصه .. و من ثم كانت أحكام الهمج غريزية جداً و عقائدهم تقليدية و اذواقهم تستند إلى تجارب معدودة لا تسمح لهم بدقة التمييز .. و الرجل الهمجى الذى يبدأ فى نقد عادات قبيلته و تقاليدها نقداً عقلياً سرعان ما يقضى على وجوده و يقضى على همجيته .. حيث انه بهذا النقد يكون قد خطا خطوة كبيرة نحو المدنية" ! ربما الآن نستطيع ان نفهم السر الحقيقى وراء كل تلك الأزمات الحياتية الكوكبية التى تخص رغيف الخبز والسولار وارتفاع الأسعار وانخفاض الأجور وابسط تفاصيل الحياة و التى يحرص الحكام عموماً – أياً كانت الدولة - على استمرار معاناة الشعوب منها طوال الوقت .. فتلك الأزمات هى ضمانتهم الوحيدة – اللى همه الحكام - لإستمرار المواطن المطحون مشدوداً طوال الوقت إلى ساقية محاولاته اليومية للإستمرار على قيد الحياة .. تلك المحاولات التى تتسبب بدورها فى إعلاء الغريزة على العقل لتعطله عن التفكير السليم أو الإحساس بالقيم و بالتالى الإبتعاد عن نموذج المدنية الراقية .. و عندها يصبح الحديث عن قيم مثل الحرية و العدالة الإجتماعية حديثاً عبثياً من منطلق أنه حرية إيه اللى بتتكلموا عنها إذا كان الشعب أصلاً مش لاقى ياكل .. و يصبح الحديث عن الفن و الجمال ترفاً و مبالغة و فرفرة و كلام ناس رايقة كما اسلفنا فى مثال الرجل بتاع الإسكيمو الذى تعد عنده البيضة المحمرة أهم مليون مرة من الأغنية الجميلة .. كما يصبح الحديث عن النهوض بالتعليم مدعاة للسخرية فى دولة تفككت فيها العلاقات بين الطلبة و الأساتذة سواء فى المدرسة أو فى الجامعة كما نرى جميعاً منذ سنوات .. كما يصبح الحديث عن الأخلاق درباً من دروب الهرتلة فى ظل حكم اللاأخلاق للكوكب .. لهذا .. قبل اى حديث عن أى مدنية .. هناك صفتين ينبغى عليكم التحلى بهما اولاً .. تكونوا بتحكموا عقلكوا .. و تكونوا بتحسوا بالقيم .. و الآن إسالوا انفسكم و أجيبوا بصراحة .. هل ترون أنكم تتحلون بهاتين الصفتين ؟!