منذ كانت فى الحادية عشرة، قررت آليس مونرو، ولدت عام 1931 فى ويجام أونتاريو فى كندا، أن تصبح كاتبة، لترسم ملامح العالم الريفى الصغير بجنوب كندا، حيث كان والدها يعمل بمهنة تبدو غريبة لنا فى العالم العربى نوعًا ما، وهى مهنة تربية الثعالب لذبحها وبيع فرائها، وهكذا نشأت مونرو فى بيئة يختلط فيها الجمال بالموت، والغريزة الحيوانية للثعالب بالقتل من أجل العيش، وساهمت بأدوار مختلفة فى هذا العالم الغريب وتفتح وعيها عليه. وهكذا تناولته منذ قصتها القصيرة الأولى «أبعاد ظل» (1950)، ثم تناولته بمزيد من النضج والواقعية والتفاصيل فى قصة «أولاد وبنات». وترى آليس مونرو أن «الأشياء الكبرى، مثل الشرور التى تحدث فى العالم لها صلة مباشرة بالشرور التى تحدث حول طاولة عشاء»، وبأنّ القصة الطويلة (نوعها المفضّل فى الكتابة) أفضل وسيلة فى التعبير عن هذه الصلات، لأنّ الأمر المهم هو «كيف حدثت الأمور»، وليس «ما الذى سيحدث»، كما يتوقّع القرّاء من أى عملٍ أدبى. اتسمت قصص مونرو المبكرة بتناول نموّ الأنثى ومعاناتها الجنسية فى مجتمع ريفى ذكورى مغلق وحافل بالشكوك تجاه الأنثى. واستمرت هذا الاهتمام والتناول فى الظهور كلما عالجت الكاتبة مسألة الجنس. وهى تعترف بأن الجنس كان على الدوام مصدرًا للشقاء على رغم لحظاته الجذابة: «هناك طريقة وحيدة لوصف فشلنا فى التحدث عن الجنس، وهى أن الكلمة بحد ذاتها كانت دومًا مغطاة ملتبسة وغير جاذبة، بل ومقززة». ورغم ذلك لا تخلو قصصها من بعض المشاهد الجنسية الشهوانية ريفية الطابع. «ربما يبدو سطح أعمال مونرو هادئًا وبسيطًا وخارجيًّا، لكن تحت تلك البحيرة كنز معرفى، وكيان ثاقب، وعالم حكيم لا يستطيع القارئ أن يغادره بسهولة»، هكذا وصفت جاين سمايلى، رئيسة لجنة تحكيم جائزة مان بوكر الدولية، قصص آليس مونرو عند إعلان فوزرها بالجائزة فى عام 2009. كذلك قالت الكاتبة البريطانية المعروفة «أ.س. بايات»: «تستثير قصص آليس مونرو الكاتب فى نفسى، فعباراتها البسيطة تحمل شيئًا جديدًا كل مرة». ما الجديد إذن لدى كاتبة مخضرمة بين قرنين لا ترى فى الحداثة وما بعدها ما يستحق ولو قليلًا من الصداع كما تقول، حتى فوكنر لا يدهشها؟ وتتسم قصص مونرو بالاهتمام بما يحيط بها من شخصيات وأحداث تبدو عادية ومعتادة، لتحولها من خلال تراكم التفاصيل إلى شخصيات متدفقة الحياة والحيوية ومفاجئة دون جنوح لغرائبية أو لمحاولة كشف أبعاد نفسية مركبة للشخصيات. هكذا ببساطة متناهية وبلغة واضحة غير متكلفة أو مركبة الأسلوب، تصف مونرو شخصياتها فيزيائيًّا وكذلك تهتم بوصف أدق تفاصيل عالمها من شكل المنزل، حيث تقيم إلى نوع الأثاث والملابس. وهكذا فرغم طول قصصها البادى (من 20 إلى 70 صفحة)، التى جعلت كثيرًا من النقاد يميلون لوصفها بالقصص الطويلة وربما أميل أنها لوصفها بالنوفيلا، فإن معظم تلك القصص يعتمد على أحداث محدودة لصالح الإسهاب فى الوصف حتى لتبدو القصص أقرب للمنمنمات لفرط ما تحتويه من تفاصيل وحكايات صغرى. وربما هذا ما دفع بعض النقاد لوصفها «بأنها تشيخوف القصة القصيرة المعاصرة»، لكننى أرى أن هناك مسافة شاسعة بين قصصها وقصص أنطون تشيخوف، تتمثل فى قدرته الهائلة على سبر أغوار شخصياته من خلال بساطة الأفعال والأحداث، إضافة إلى العمق المعرفى والنفسى والفلسفى يبدو غير منعزل عن عصره، بينما تبدو قصص مونرو المغرقة فى واقعية الريف والمهتمة بتفاصيله وحكايته أقرب إلى التوثيق منه للكشف، وربما هذا ما جعلنى أصفها بأنها «أوبرا صابون» لافتقار كثير منها للعمق (ولا يرتبط العمق بصعوبة الأسلوب وقصص تشيخوف خير مثال على هذا ومعها ما كتب زوسكيند من قصص وماركيز وكونديرا ووليام تريفور وريموند كارفر.. ولدينا فى مصر يوسف إدريس ومحمد المخزنجى)، والتطور، وهكذا لا تتطلب قراءتها كثيرًا من الانتباه والوعى، وتتناسب كثيرًا مع القراءة المرتبطة بالاسترخاء تمامًا مثلما ترتبط مسلسلات «أوبرا الصابون» بحالات الاسترخاء أو قيام النساء بالأعمال المنزلية. وربما هذا ما جعل كثيرًا من النقّاد يصفون أدبها بأنّه «عن النساء ولهنّ، لكن من دون شيطنة الرجال».