يبدو فى كثير من الأحيان أن معظم الشعب المصرى ونخبته يعانون من مرض غامض يجعلهم عاجزين عن النظر إلى الأمام ويحبسهم دومًا فى سجن الماضى ويحتجزهم خلف قضبانه الفولاذية السميكة دون قدرة على النجاة السريعة، فأنت تستمع إلى النخبة المصرية «الفضائية» على عشرات القنوات المحلية والإقليمية فتجد غالبية الأحاديث تتركز على موضوع واحد لا ثانى له وهو ما حدث فى سنة حكم الإخوان ورئيسهم ومن لفّ لَفَّهم وكمّ الأخطاء والجرائم التى ارتكبوها فى حق الشعب المصرى، وسياساتهم الفاشلة ونظرتهم القاصرة فى حل المشكلات، وهل نتصالح معهم أم لا، وما شروط ومعايير هذه المصالحة... ثم يتم التطرق إلى تصنيف مَن يقبل بها فى هذه المرحلة ومَن يرفضها ولماذا، وهلمّ جرّا فى هذا الإطار دون أن ينسى المتحدث، أيا كان، أن يعرّج على ذكْر مساهمته «غير المسبوقة» فى الإعداد ل«30 يونيو» ورؤيته الثاقبة للمستقبل وتنبُّئه بحدوث ذلك! وأنا لا أعترض على كل ذلك وأرحِّب بجميع المتحدثين «الفضائيين»، لكن السؤال المهمّ هنا هو: متى نخرج من أسْر ما حدث ونعمل بجدّ وإصرار لتحقيق ما يجب أن يحدث؟ وقبل أن ينبرى البعض لتبرير هذا الانغلاق النقاشى والاستغراق فيه بادعاء أن هذا جزء من التعلم من الدروس المستفادة والتجارب السابقة لتجنب أخطائها أقول لكم إن الشعوب الراغبة فى التحرك قدمًا لا تترك نفسها للغوص فى بحر رمال «الدروس المستفادة» إلى ما لا نهاية وإلّا فمتى تستنفر طاقاتها الكامنة للنظر نحو المستقبل وتحقيق أهدافه؟ انظروا يا سيداتى ويا سادتى إلى التجربة السابقة واستفيدوا من دروسها ولكن لا تسمحوا لها بابتلاع حاضركم ومستقبلكم القريب وتعجيز قدرتكم على الحركة لتصبحوا أسرى دوائر مفرغة لا تؤدى بالوطن إلى مسار إيجابى لصالح المصريين، وفى هذا السياق الإيجابى من النظر إلى الأمام هناك أمور حالّة وعاجلة إضافة إلى ما ورد فى خريطة الطريق من مسار سياسى متعلق بالدستور والاستفتاء عليه والانتخابات سواء البرلمانية منها أو الرئاسية فهذه الخطوات الرئيسية مع الأهمية البالغة لها جميعا وسعادتنا بكونها تمضى فى طريقها المرسوم نحو التحقق على أرض الواقع فإن ذلك يجب أن لا ينسينا وجود مسارات أخرى بنفس الأهمية يجب أن نحقق فيها إنجازا سريعا وملموسا إذا أردنا التقدم كأمّة تنهض من عثرتها وأهمها تحسّن الاقتصاد ورفع مستوى المعيشة سعيًا نحو العدالة الاجتماعية وضمان أمن المواطن فى الشارع المصرى، إضافة إلى مشروع المستقبل الحقيقى وهو الإصلاح الثقافى والتنويرى الذى يسير متلازما مع الأهمية القصوى للبحث العلمى مؤسَّسًا على إصلاح التعليم. قد تبدو هذه الموضوعات المذكورة أخيرا أقل جاذبية للنقاش على ساحة الفضائيات من الموضوعات السياسية الساخنة التى تكسب جمهورا عريضا على أرضية الاستقطاب السائد مجتمعيا، ولكن تلك الموضوعات السابق ذكرها هى فى حقيقة الأمر ونهاية المطاف جوهر التقدم المنشود فعليا وماديا حتى لو لم يدرك بعضنا ذلك فى هذه اللحظة المختطفة سياسيا لأن ما سيتحقق على جبهة الإصلاح السياسى ومختلف الإجراءات الديمقراطية هو مجرد واجهة البناء الصلب الذى ننشده، بينما نجد أن قضايا الاقتصاد والتعليم والثقافة السائدة وأمن المواطن تمثل، إذا جاز التعبير، «القواعد الخرسانية» التى تحمل وتحمى وتحافظ على هذه الواجهة السياسية للبناء الوطنى وتضمن لها الاستمرار وتمنعها من الانهيار تحت تغير الظروف. وعليه فإن هذه الحكومة «التأسيسية» كما تحب أن تطلق على نفسها وهذه الرئاسة «المؤقتة» كما هو واقع الحال يجب أن يكون لهما طموح ورؤية فى كيفية صياغة وطرح مشروع «الحلم المصرى نحو دولة حديثة» ويكفيهم فخرا فى قادم الأيام أن ينجحوا فى أثناء وجودهم القصير فى وضع الخطوط العريضة الواقعية بشأن أولويات هذه الخطة وأهدافها العملية وجداولها الزمنية ومهام القائمين عليها فى المجالات المختلفة بغضّ النظر عن ماهية وصفة الحكومة التى ستنفّذها لأن مثل هذا المشروع القومى الطموح هو مشروع الدولة المصرية ككل لا حكومة بعينها وهو خطة متدرجة تسلم إنجازاتها فى نهاية كل مرحلة الحكومة القائمة إلى التى تليها، فهذا ليس مشروعا لجيلنا فحسب بل يجب أن يكون مشروع الأجيال القادمة بصفته دَينًا فى رقابنا يسدَّد مقدمًا إلى الأجيال التى تلينا لتصبح هذه الخطة القومية الطموحة والمتفائلة والمستقبلية مصدرا لفخر هذا الجيل وهذه الحكومة وهذه الرئاسة يتم ذكره فى سجل الإنجاز القومى لهذا الوطن كما نأمل جميعا، ولنعمل جميعا على أن نخرج من سجن الماضى ونتجنب النظر إلى الخلف بغضب ومرارة وندعو الحكومة والرئاسة لطرح هذه الرؤية والخطة المبتغاة القائمة على النظر إلى الأمام على الرأى العام مع دعوة كل المصريين لتقديم المساهمات الفكرية والعملية والمادية للدعم والتنفيذ، كلٌّ فى مجاله، وفى ذلك فليتنافس المتنافسون!