“بإمكانى أن أتخيل الكل.. كل شىء وأى شىء.. لأننى لا شىء.. لو كنت شيئاً لما كان بإمكانى أن أتخيل.. مساعد الحسابات بإمكانه أن يحلم بنفسه إمبراطوراً رومانياً.. بينما ملك إنجلترا محرم عليه أن يكون – فى الأحلام – ملكاً آخر مختلفاً عن الملك الذى هو إياه.. الواقع لا يترك له مجالاً للإحساس”.. تلك هى النتيجة التى يصل إليها الكاتب البرتغالى “فرناندو بيسوا” فى أحد مقاطع كتابه المبدع “اللاطمأنينة” - والذى ترجمه “المهدى إخريف” – وهى النتيجة التى أسفرت عنها خيالاته أثناء تناوله طعام الغذاء بأحد المطاعم الشعبية.. حيث سرح مع الرجل الواقف فى مطبخ المطعم منذ ما يربو على الأربعين عاما.. وأخذ يفكر فى نوعية الحياه التى قد تنتمى إليها حياة هذا الرجل.. فهو يستيقظ يومياً فى الصباح الباكر ليأتى إلى ذلك المطبخ الضيق.. ويظل حتى المساء يطبخ.. ثم يذهب إلى منزله منهكاً لينام ساعات قليلة.. يستيقظ بعدهم ليذهب إلى نفس المكان الضيق.. يفعل ما يفعله كل يوم بدون أدنى شعور بالرتابة أو الملل.. ثم يتعجب “بيسوا” أكثر من كون هذا الرجل الذى يحيا حياه رتيبة تماماً بكل ما تعنيه الكلمة من رتابة متزوج حيث يسترسل “بيسوا “ فى خيالاته وهو يتابعه يقوم بعمله الذى يقوم به بشكل يومى منذ أربعين عاماً.. “لقد تزوج.. لا أدرى كيف ولا لماذا.. لديه أربعة أبناء وبنت واحدة.. ولديه يوم واحد فقط أجازة فى الأسبوع مُخَصص لسيركه الخاص.. هؤلاء المهرجون فى الأطلال الباطنية لحياته.. أما ابتسامته – أثناء آداءه لعمله – فهى تنم عن سعادة عظيمة ورائعة.. من المؤكد أنه لا يتظاهر.. فلا مبرر لديه لكى يتظاهر.. فإذا كان يحس بهذه السعادة فلأنه يمتلكها بالفعل “. ثم ينتقل “بيسوا” بخيالاته إلى النادل الذى يضع امامه القهوة.. “ وماذا عن النادل الكهل الذى يخدمنى.. والذى وضع أمامى كأس قهوة لعله الكأس المليون منذ امتهن وضع كؤوس القهوة على الطاولات.. إنه يحيا نفس حياة الطباخ.. مع فارق بالكاد يصل إلى أربعة أو خمسة أمتار.. هى المسافة الفاصلة بين المطبخ الذى يوجد فيه أحدهما وبين القسم الخارجى من المطعم الذى يشتغل فيه الثانى.. هذا الكهل لديه ولدان فقط.. ومن حيث السعادة.. لا فارق بينه وبين الأول”. يتعجب “بيسوا” من مظاهر السعادة التى تبدو على شخصين أوقفا حياتهما منذ أربعين عاماً عند حدود ذلك المطعم الضيق الكئيب.. ويشعر بالحزن من أجلهما وبالرعب من مجرد تخيل أن يعيش إنسان حياته بكل تلك الرتابة والملل.. ثم تتحول مشاعره إلى الحنق تجاههما قبل أن يكتشف الخطأ الذى وقع فيه.. “إنه الخطأ المركزى الجسيم للتخيل الأدبى.. إفتراض أن الآخرين هم نحن وأن عليهم أن يحسوا إحساسنا.. لكن لحسن حظ الإنسانية.. كل إنسان هو فقط من هو “.. وبناءاً عليه.. لا ينبغى علينا أن نفترض أن الآخرين عندما يفكرون فى شىء ما يفكرون بنفس طريقتنا.. فنحن نفكر بطريقة بعينها لأننا أشخاص بعينهم.. بينما الشخص الآخر سوف يظل شخص آخر.. يفكر بطريقة مختلفة.. ليصل إلى نتائج مختلفة.. لهذا.. فالمسألة كلها فى النهاية حِكر على قدرتك على التخلص من الشعور برتابة الحياه بسهولة.. والسهولة فى ذلك الإطار تقف فى صف “الطباخ” ومن تتخذ حياتهم نفس الشكل المعتمد على التسليم بالأمر الواقع فى الحياه وليس فى صف “بيسوا” ومن تتخذ حياتهم نفس الشكل الفنى المعتمد فى الأساس على الخيال. “الحكيم هو من يضفى الرتابة على الوجود.. بحيث يكتسب حينئذ كل حادث – مهما صغر شأنه – ميزة الأعجوبة.. حيث أنه بعد الأسد الثالث تفقد مغامرة صياد الأسود كل إثارتها”.. إذن إضفاء الحكيم الرتابة على الوجود.. ليس بهدف جعل الوجود رتيباً بقدر ما هو بهدف التخلص من الرتابة.. فإذا توصلتم إلى نتيجة مفادها أن كل الأيام فى النهاية متشابهات.. وأن دورة حياتنا ليست سوى تكرار لدورات حياه أخرى.. عندها سوف تبدأ أقل الأشياء وأبسط التفاصيل إثارة لخيال الناس العاديين فى لفت انتباهكم.. بمعنى أصح.. إدهن كل حوائط منزلك بالسقف بالأرضيات بلون موحد أبيض.. ثم استمتع بعد ذلك بأصغر تفصيلة ملونة موجودة فى المكان.. كن ملكاً من ملوك الأحلام.. ودع خيالك يذهب إلى أبعد مدى.. واعلم أن الرتابة شىء نسبى تماماً.. فالمسافر الذى يقوم برحلة مستمرة ومتواصلة حول الكوكب.. سوف يبدأ فى وقت من الأوقات فى الشعور بالرتابة والملل على الرغم من مصادفته كل يوم لجديد.. حيث أن مصادفتك اليومية لأشياء جديدة سوف تتحول مع الوقت و مع التكرار لتصبح فى حد ذاتها.. نوع من أنواع الرتابة!