قبل زيارة السيد رئيس الوزراء التركى، رجب طيب أردوجان، إلى مصر كتبنا مقالا بعنوان «عودة الباب العالى». وجاء أردوجان إلى القاهرة، ليأثر قلوب المصريين والعرب «بخطاب» يذكرنا «بخطب» زعماء الستينيات الكبار فى لحظة تاريخية حرجة رحبت بالثورات وبإجهاضها فى آن واحد، وتحولت دول صغيرة جدا إلى دول عظمى، بينما دول إقليمية كبيرة تتحول إلى غبار تاريخى. جاء أردوجان إلى القاهرة، ليركز على كل نقاط الاتفاق مع القيادة المصرية (غير الموجودة أصلا)، ويفتح آفاق العالم أمام مصر جديدة ديمقراطية علمانية (على الطريقة التركية العسكرية- الدينية). ولعب فى الوقت نفسه على وتر القضية الفلسطينية، متجاوزا حتى الفلسطينين أنفسهم. هكذا أصبحت تركيا فى لمح البصر معادية لإسرائيل، وتهدد الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبى. إذن، ماذا بقى لتعلن أنقرة الحرب على العالم؟! فى الوقت نفسه، لم يتغير موقف تركيا من إيران أو الأكراد! نعرف أن مصر ليست تركيا، ولا بحجم تركيا، ولا بنفوذ ولا تأثير تركيا. هكذا شاء النظام الاستبدادى الذى حكم مصر لمدة 30 عاما. وهكذا تقلص دور مصر الإقليمى بنتيجة تخريب البنية الداخلية، وتسييد الاستبداد والعنف وقوانين الطوارئ وتكميم الأفواه وبيع مصر أو تمليكها بالمجان لكل من هب ودب، سواء من المصريين أو العرب الذين يدركون جيدا قيمة ما نهبوه وسلبوه، وفى الوقت ذاته يدعون أن بضاعتهم رخيصة ولا قيمة لها! الآن تأتى تركيا كلاعب إقليمى ودولى، لترسى معادلات جديدة فى المنطقة، تمهيدا لدور إقليمى أكبر، ودولى أكثر اتساعا وشمولا. من حق تركيا، عضو حلف الناتو، أن تبحث عن مصالحها وتدافع عنها وتتحالف مع من تشاء لتحقيق أهدافها ومصالحها القومية والوطنية، انطلاقا مما تملكه من قدرات وطاقات وإمكانيات. ولكن ماذا بشأن مصر الضعيفة المنهكة، ليس طبعا بسبب الثورة، وإنما بسبب الاستبداد واستمراره وانهيار المؤسسات البدائية أصلا، وتخلف نظم الحكم والإدارة والإصرار على سياسة خارجية تابعة، سواء للمحيط الإقليمى أو الدولى على حد سواء؟! لا أحد عاقلا يمكن أن يمانع فى إرساء علاقات متينة واستراتيجية مع تركيا. ولكن مثل تلك العلاقات لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع بين قوى غير متكافئة مهما كان حسن النية والكلام المغزول والمعسول والآمال العريضة. فهل هناك ضمانات بعدم جر مصر إلى حلف الناتو؟ هل هناك ضمانات بعدم استبدال المنظومة الإقليمية العربية؟ هل هناك ضمانات بعدم تقليص دور مصر الإقليمى التاريخى ولو حتى نظريا؟ ندرك جميعا، ومع الأسف، أن دور مصر الإقليمى توارى تماما لأسباب داخلية بحتة، ولا يجب أن نلقى باللوم على السعودية أو قطر. وإذا استمر النظام العسكرى فى إعادة إنتاج النظام السابق فقد تسقط مصر فى مستنقع مسموم على مستوى الجغرافيا والتاريخ والطائفية التى ستنتج حتما مشكلة عرقية، تظهر مقدماتها فى أطراف مصر شرقا وغربا وجنوبا، ناهيك عن الأصول العربية والأصول المصرية. ماذا لدى مصر من عناصر القوة الكامنة: الاقتصاد والتاريخ والجغرافيا والتكنولوجيا والسياسة والقوة العسكرية الحقيقية؟ ماذا لدى مصر من عناصر القوة الفعالة أو المؤثرة: الإرادة السياسية والعقلية الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجى طويل المدى؟ إن حاصل ضرب مجموعتى العناصر هذه ببعضها بعضا هو القوة التى تمنح الدولة دورها الإقليمى الذى يضعها على طريق دور دولى يحقق مصالحها القومية والوطنية. ثلاثون عاما من التخلف والاستهتار والاستبداد والسياسة الخارجية الفاشلة بكل المعايير، غيبت مصر تماما عن الساحتين الإقليمية والدولية. ومع إصرار النظام العسكرى الحاكم فى مصر على إنتاج النظام والإبقاء على المنظومة الإدارية السابقة، والحفاظ على كل القوانين المعيبة والقمعية ووضع العربة أمام الحصان، لا يمكن بأى حال من الأحوال تحقيق أهداف ثورة 25 يناير أو تحقيق المعادلة الحسابية البسيطة الواردة أعلاه. كل ذلك لا ينفى إطلاقا قدرة النظام العسكرى الحالى فى مصر على المتاجرة بالثورة. ولا ينفى أيضا قدرة وسائل إعلام النظام السابق، التى وجدت فى النظام العسكرى الحالى سيدا جديدا، على ضرب الثورة وإحداث فراغ معلوماتى وإعلامى، تسبب فى خلط الأوراق وإيقاع المواطن البسيط فى حالة تخبط. إذا كان الهدف من كل ذلك هو إعادة إنتاج النظام السابق، والحفاظ على نفس المنظومات الإدارية والذهنية، فلا حديث هنا عن تدشين علاقات تكافؤ لا مع تركيا ولا مع قطر ولا حتى مع إثيوبيا وجمهورية جنوب السودان. إن تركيا تدير وجهها الآن إلى المنطقة العربية ككل، لا إلى مصر وحدها. وذلك لأسباب جيوسياسية محضة، بعضها يخص تركيا كقوة إقليمية، والبعض الآخر يخصها كعضو فى حلف الناتو مكلف بتنفيذ برنامج الحلف الذى تقوده الولاياتالمتحدة وتشارك فيه كل دول أوروبا تقريبا. ولكن مصر كانت بعيدة دوما عن الأحلاف والتكتلات، وهذا تحديدا من أهم مميزات مصر وصفاتها التاريخية. ولكن أى مصر؟ إنها مصر القوية لا الضعيفة المهلهلة اجتماعيا وتعليميا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا وتكنولوجيا، لا مصر الواقعة فى مستنقع القمع والاستبداد وقوانين الطوارئ والحكم العسكرى أو الدينى..