لم يحب المصريون زعيمًا سياسيًّا بامتداد القرن العشرين مثلما أحبوا سعد زغلول، ونستثني جمال عبد الناصر فقط، وإذا كان اليوم 23 أغسطس يوافق مرور 89 عامًا على رحيل سعد (مولود في 1857)، فالسؤال المحير: لماذا لم تنتج السينما المصرية فيلمًا أو أكثر يتناول حياة هذا الرجل، وهي حياة ثرية مترعة بالوقائع والأحداث التي تستطيع أن تستخرج منها السينما حكايات ومواقف شائقة تصلح للشاشة إذا استثمرها مخرج متميز؟ قبل أن أستفيض وأشرح يجب أن نفهم الدور الذي لعبه سعد زغلول في حياتنا، حتى يتسنى لنا تقييم هذا الدور، فالرجل كان ممثلاً للطبقة الرأسمالية الوليدة التي بدأت تتشكل ملامحها مع منتصف القرن التاسع عشر بعد السقوط التدريجي للطبقة الإقطاعية ومنظومتها الثقافية، والتي ظلت تتحكم بمصر قرونًا عدة، حتى جاء الوالي عباس حلمي الأول (1848/ 1854)، ثم الوالي سعيد (1854/ 1863) ليحطما هذه الطبقة العجوز تحت ضغوط الدول الأوروبية ذات النفوذ القوي في مصر، لأن الإقطاع صار يخاصم التطور الصناعي الذي هلت بشائره في أوروبا، وراحت تبحث لها عن أسواق في الشرق، ومصر في القلب من هذا الشرق. المهم تشكلت طبقة مصرية رأسمالية وليدة ذات طموح ضخم، لكنها اصطدمت بالاحتلال البريطاني لمصر، فلم تستطع أن تطور أدواتها وتراكم أرباحها، وهكذا حاولت مزاحمة الاحتلال في إنشاء المصانع والشركات، لكنها تعرضت للمكر والتهديد والعنف من قبل ذلك الاحتلال. من هنا بالضبط اندلعت ثورة 1919 (عددنا آنذاك كان 13 مليون نسمة)، التي هي بمثابة ثورة الرأسمالية المصرية الناشئة ضد سيطرة الرأسمالية البريطانية الكبرى، وكعادة أي مجتمع، هناك دومًا طبقة رئيسية تقود ذلك المجتمع، وبالفعل، قادت الرأسمالية المصرية الفلاحين والعمال والموظفين وبقية طبقات الشعب في ثورة ضد الاحتلال (أفتح هذا القوس لأذكرك بأن الرأسمالية المصرية كانت تنهب طبقات الشعب الأخرى، ومع ذلك تمكنت بذكائها وعلمها من رفع شعار الاستقلال الوطني الجذاب لتضم تحت جناحها هذه الطبقات المسحوقة، وهو أمر طبيعي في تاريخ الشعوب). هكذا إذن لاح سعد زغلول بوصفه رمزًا لهذه الطبقة الرأسمالية المصرية... رمزًا للوطن... رمزًا (للشعب) كله، الذي هتف باسمه ورفع صورته في كل مكان، وقد دافع الرجل بصلابة عن (حقوق) المصريين في الحرية والاستقلال، وتعرض للنفي أكثر من مرة، وأسس حزب الوفد وتولى رئاسة الوزراء ثم رئاسة البرلمان، وكان قد تزوج من ابنة رئيس الوزراء السيدة صفية عام 1892 (أحيا حفل الزفاف عبده الحامولي سيد مطربي القرن 19)، كما شارك في ثورة عرابي واعتقل ثلاثة أشهر... أي أنه عاش حياة عريضة تحتشد بوقائع غريبة، ويكفيه فخرًا أنه أسهم في تعزيز شعور المصريين بفكرة الوطن. من عجب أن افتتان المصريين بالرجل فاق كل تصور، لدرجة أنهم تحايلوا على أوامر الاحتلال الإنجليزي بعدم ذكر اسمه، فأنشد سيد درويش أغنيته الجميلة (يا بلح زغلول)، وزعم الفلاحون أن الجاموسة عندما تصدر صوتًا عاليًا، فهي تهتف باسم (سعد) بلهجتها الخشنة! ولما مات الرجل في مثل هذا اليوم 23 أغسطس 1927 بكاه المصريون بحرقة، لدرجة أن صحيفة "الأهرام" في اليوم التالي لم تجرؤ أن تكتب (وفاة سعد أو رحيله)، وإنما ذكرت في العنوان الرئيسي في صفحتها الأولى كلمة واحدة فقط، وهي (سعد)، ولم تكتب (زغلول)، وأظنها أول وآخر مرة يتكون عنوان صحيفة من كلمة واحدة! كما تعرف، فقد لاحت شخصية سعد زغلول بشكل عرضي في أكثر من مسلسل وفيلم، وتناولت الدراما والسينما بعض وقائع ثورة 1919 (بين القصرين مثلا)، لكن في تقديري كل هذا لا يكفي، فكم نحن بحاجة إلى صناعة فيلم تاريخي ضخم عن حياة هذا الرجل بتنوعها وخصوبتها، ويكفي أنه شاهد بعينيه التحولات المذهلة في المجتمع المصري، من أول التخلي عن البهائم كوسيلة مواصلات وحيدة، حتى دخول القطارات والسيارات والطائرات، كما رأى تدفق الصناعات والآلات والأدوات الحديثة إلى بلده، من أول التلغراف والتليفون والكهرباء حتى الصحف والراديو والسينما! باختصار... فيلم عن سعد زغلول ضرورة فنية وتاريخية، وإنتاجه في حاجة إلى حكومة ذكية، فهل في مصر حكومة ذكية؟