لا أحد يمكنه التقليل من قيمة شبكات التواصل، فالواقع يقول إنها أصبحت النافذة الأكثر حرية للتعبير، والوسيط الأهم في نقل الأخبار، لكنها في الأخير تظل وسيلة تواصل، ووسيلة لنقل الأخبار، وربما فضح الخبايا والأسرار، لكن التعامل معها على أنها "مصدر تغيير" فخ الوقوع فيه يضر ولا يفيد. مع صعود الرئيس عبدالفتاح السيسي للحكم بعد معركة دامية مع جماعة الإخوان المسلمين، تغيّرت الأوضاع السياسية بصورة حادة في مصر، وأصبح القضاء على الإرهاب والحفاظ على ما يوصف بمؤسسات الدولة هو الأولوية الأولى للسلطة، ما أسفر عن تضييق بالغ على الحريّات عامة وحرية الإعلام خاصة. ومع تقلّص دور الإعلام التقليدي، زاد الاعتماد على الإعلام البديل المتمثل في صفحات التواصل الاجتماعي، وشيئًا فشيئًا تحول أي انتصار لمعركة في السوشيال ميديا إلى انتصار لقوى المعارضة يستوجب التهليل والفرح. لكن هل حقًّا صفحات التواصل الاجتماعي بهذه القوة؟ وهل هي فعلا قادرة على الإطاحة بهذا والإفراج عن ذاك؟ أم أن قاطنيها بالغوا في تقدير قوتها؟ لعل نظرة مدققة على حقيقة ما جرى في بعض انتصارات "فيسبوك" ربما تخبرنا الكثير عن طبيعة الصراع الدائر بين الواقع والعالم الافتراضي. "دويتش فيله" وماهينور المصري: في الأسبوع الماضي، قام ناجي عباس الصحفي بمؤسسة دويتش فيله الألمانية، بكتابة منشور على صفحته بموقع فيسبوك (وصفه هو لاحقًا بأنه ساخر)، يحرض فيه على إلقاء ماء نار على الناشطة ماهينور المصري. انتابت مستخدمي صفحات التواصل الاجتماعي من المحسوبين على التيار المدني موجة غضب، وتداولوا منشور الأستاذ ناجي باستياء بالغ. وفي غضون ثلاثة أيام من تلك الحملة، أعلنت مؤسسة دويتش فيله فصل الصحفي، ليحتفل رواد فيسبوك بالنصر، وتعود لافتة "إحنا مؤثرين" وthe power of social media لتتصدر صفحات الكثيرين. لكن إحقاقًا للحق، فإن من أطاح بناجي عباس لم تكن حملة النشطاء فحسب؛ بل تدخل أحد المسؤولين الأوروبيين ممن يديرون ملف مكافحة الإرهاب في أوروبا، والذي ما إن نما إلى علمه أن هناك مواطنًا على الأراضي الأوروبية يحرض على تشويه فتاة بماء النار، حتى انزعج بشدة وقرر التحرك، ففي أوروبا التلويح باستخدام الأحماض لتشويه الناس، يندرج تحت بند الإرهاب ويلقى بظلال رعب من تكرار سيناريوهات إيران وباكستان، حيث يلقى بالأحماض على الفتيات وتشوه وجوههن على خلفية مواقف سياسية أو دينية. اتصل المسؤول الأوروبي بالخارجية الألمانية مستفسرًا عما يحدث، التي بدورها أخبرته أنها ستحقق في الوضع، ثم عادت لتخبره أن الصحفي المصري أقر بأنه كتب ذلك فعلا على صفحته، وأنه سوف يفصل وقد يتعرض للمحاكمة، وهو ما نشره كاتب هذه السطور على حسابه الشخصي على فيسبوك قبل يوم كامل من إعلان المؤسسة نبأ فصله. السؤال هل لو كان هذا المسؤول لم يُحط علمًا بالخبر أو علم وقرر عدم التدخل كانت دويتش فيله ستعاقب الصحفي المصري؟ ربما نعم، ربما لا، لا يمكن الجزم، لكن حقائق الأمور تقول "إن من أنهى الأزمة هو التدخل الفعلى على الأرض لمسؤول أوروبي وليس منشورات الشبكة العنكبوتية. الإفراج عن حسام بهجت في نوفمبر الماضي، وجّهت إدارة المخابرات الحربية المصرية استدعاء كتابيًّا للصحفي حسام بهجت، ثم تم تحويله إلى نيابة شمال القاهرة العسكرية للتحقيق معه على خلفية تقرير صحفي نشره في موقع "مدى مصر" بعنوان "تفاصيل المحاكمة العسكرية لضباط بالجيش بتهمة التخطيط لانقلاب " وبعد التحقيق مع حسام أمرت النيابة العسكرية بحبسه أربعة أيام على ذمة القضية. وعلى الفور اشتبك جمهور صفحات التواصل مع الحدث وانتشرت الهاشتاجات المتضامنة معه….. وفي غضون يوم ونصف اليوم حدث تطور دراماتيكي في القضية، حين أصدر سكرتير عام الأممالمتحدة بان كي مون تصريحًا يطالب فيه الحكومة المصرية باحترام الحريات والإفراج عن الصحفي والحقوقي المصري حسام بهجت، ليرد عليه وزير خارجية مصر بقوة رافضًا أي تدخل في أعمال القضاء المصري، لكن إن هي إلا سويعات قلائل وفوجئ الجميع بالنيابة العسكرية تخلي سبيل بهجت فورًا، وقبل حتى أن تمضى الأيام الأربعة حبسًا التي أمرت بها، في سابقة ربما تكون الأولى من نوعها في تاريخ القضاء العسكري المصري. الإفراج عن حسام بعد هذا الكم الهائل من التعاطف معه على صفحات التواصل عزز شعور المستخدمين بثقتهم بأنفسهم، وبأنهم نجحوا في إطلاق سراح صحفي التحقيقات بهجت. لكن من منظور آخر وبعيدًا عن بريق الشاشات كانت هناك اتصالات مباشرة بين إحدى العواصمالغربية والمؤسسة العسكرية المصرية، نجم عنها إقناع الأخيرة بإطلاق سراح المحتجز - وقد روى بهجت في منشور له على صفحته الخاصة أن أحد الضباط برتبة لواء أخبره أن النيابة قررت حبسه أربعة أيام على ذمة التحقيق، ولكن المخابرات الحربية هي التي قررت إطلاق سراحه اليوم. الجدير بالذكر أيضًا أن تصريح الأمين العام للأمم المتحدة المتضامن مع بهجت، أتى بعد تواصل مباشر بين بعض النشطاء المصريين وأعضاء من فريق بان كي مون، والذي أسفر عن إصدار ذلك التصريح. السؤال مرة أخرى ماذا لو لم يتم التواصل المباشر مع أعضاء فريق عمل أمين عام الأممالمتحدة؟ وماذا لو لم تتم وساطة مباشرة لدى المؤسسة العسكرية: هل كانت النتيجة ستكون واحدة؟ أشك. الثابت أن أغلب النجاحات التي تحققت عبر صفحات التواصل الاجتماعي كان عامل الحسم فيها هو تحرك مباشر على الأرض، ولو كانت الحملات الإكترونية وحدها كافية لإطلاق سراح مالك عادلي وعلاء عبد الفتاح وأحمد دومة وشوكان، لكانوا خرجوا، فكلهم من نجوم صفحات التواصل. نعم صفحات التواصل مهمة، لكن الأهم أن ندرك حقيقة حجمها وكيف تعمل، والأهم أن لا نحبس أنفسنا في العالم الافتراضي لنرى ونسمع أنفسنا فحسب، فالتغيير يحدث في الواقع وليس على الكيبورد.