فى روايات أجاثا كريستى* البوليسية كنت ألمح حسا أدبيا خاصا، يتمثل فى عمق الشخصيات التى تختارهم أبطالا لرواياتها البوليسية، وخلفياتهم الاجتماعية المتنوعة، وغالبيتهم ينتمون لطبقات عليا فى المجتمع الإنجليزى المحافظ. هذه الطبقات متحررة بعض الشىء وتملك المال والنفوذ، ومن حولها تدور طبقات اجتماعية أدنى. داخل الطبقات الأعلى والأدنى هناك صراع خفى يدور فى سبيل الحصول على المال والسلطة. لذا هناك جريمة كامنة وراء تفاوت السلطة هذا، وأرض خصبة لنمو الشك بالتساوى بين الجميع وضد الجميع. *** كان يلفت نظرى فى رواياتها ذلك الاهتمام غير العادى بحركات الجسد الإنسانى، بالتفاصيل الدقيقة التى تكثر فى روايات "بلزاك"** ذات الحس الاجتماعى: الإيماءات، اللفتات، زلات اللسان، ارتجافات اليد، التلعثم، الحروف الأولى المنقوشة على أطراف المناديل، وغيرها، وتقوم بتفسيرها تفسيرا غير مباشر كونها آثارا للسر، والطريق لكشف لغز الجريمة. كأن هذا اللغز جزء من "لا وعى الإنسان" ويظهر عبر هذه الأشكال المختلفة غير المقصودة. أعتقد أن هذه الرموز النفسية كانت مسيطرة، إلى حد ما، على حبكاتها لرواياتها، وكانت السبب فى انجذاب أجيال وراءها بحثًا عن حل للغز حياتهم الشخصية الذى تكمن وراءها جريمة قديمة لم ترتكبها هذه الأجيال. تلك الجريمة التى تطارد كل الأجيال.
*** أحببت روايات أجاثا كريستى وبطلها المخبر السرى الفرنسى "هيركيل بوارو"، غير القابل للتمثل الشخصى، فى مراهقتى مع حبى الشديد أيضا ل"سيمون تمبلار" بطل روايات "القديس"***. فهذا المخبر السرى تتبعه الجريمة حتى فى عطلاته السنوية. هو واللغز/ السر صديقان، يتتبع كل منهما الآخر. يبدو اللغز فى البداية كبكرة خيط شديدة التعقيد، ويبدأ المخبر فى فك خيوطها خيطا خيطا حتى يصل للحل. هناك طريقة تحليلية فى الوصول لحل لغز الجريمة، فهذا المخبر لا يملك فى هذه السن المتأخرة -تجاوز السبعين- إلا الذكاء وقوة العقل فى الشك والتحليل. أما القديس "سيمون تمبلار"، فهو والمغامرة صديقان. ذلك الشاب الوسيم، الجذاب، قوى البنية، معبود النساء، والذى ليس لديه وقت ليحل ألغازا، بل يقتحم عرينه مباشرة، ويجرى وراء المغامرات التى تثبت بطولته وجاذبيته وقوته الأسطورية.
***
الجريمة لا تأخذ إجازة فى روايات أجاثا كريستى، فهى مستمرة على الدوام لا تنام. كلما كان "هيركول بوارو" موجودا يستثير الجريمة كى تحدث، كأنها علاقة سببية أو شرطية، بين المخبر والجريمة، بين الذنب وصاحبه، لا تعرف من يسبق من، كأنها لعبة قديمة يمكن تأويلها خارج أى نسق اجتماعى. لأنه يسعى وراء اكتشاف الحقيقة، وليس من أجل "المغامرة" كالقديس. السر/ اللغز أكثر جوهرية من المغامرة. المغامرة فعل فردى أما اللغز فتجميع لشىء مركب، لخيوط جماعية متشابكة، وحله أيضا مرتبط بفهم مسار هذه الخيوط المتشابكة. اللغز مُنتج وقضية اجتماعية، كإحدى القضايا الكبرى فى الحياة.
***
كانت أجاثا كريستى، ومخبرها السرى "هيركيول بوارو" يستميلان الجانب العقلى فى القارئ، أما "سيمون تمبلار" فيستميل الجانب البطولى والغريزى، الذى يدعك كقارئ تتماهى تماما مع بطولاته، وتشاركه مآزقه، لتكون أنت "القديس". ولكنك لن تتمنى أبدا أن تدخل فى جلد شخصية المخبر "هيركيول بوارو" القصير والثخين وعمره المتأخر، بل ستستعير منه ذكاءه وقدرته على الشك وتتبّع الأدلة، إلا وقد تكون خسرت كل شىء وكسبت فقط العقل!
*** "هيركيل بوارو" مثال للتجريب والتحليل العلمى الذى يسم جزءًا من شخصية الحضارة الأوروبية الحديثة، منهج الشك الديكارتى المتغلغل فى كل ثنيات رواياتها وحكاياتها، فلا يوجد أحد لا يتم الشك فيه، أو بعيدا عن أن يكون هو المجرم/ المذنب. لآخر لحظة فى الرواية، جميع أبطالها صالحون لأن يكونوا مذنبين، ومشكوكا فيهم. عالم من الشك والغموض يحيط بالجميع. هذا الاستعمال الديكارتى للعقل، أحد الاستعمالات الحداثية ضد اليقين. أما القديس "سيمون تمبلار"، فيتحرك بحسن نية، بقوة ثقته فى نفسه، فى قوته، جاذبيته، وفى بطولته. لا يشك فى أحد، بل يتجاوز الشكوك لمرحلة اليقين، لأنه يعرف "الحقيقة"، سواء حقيقة الآخرين المذنبين الأشرار، أو حقيقة نفسه. هو وجه آخر للبطل الحديث المتجاوز والذى يعيش محميا ببريق البطولة وقداستها. "هيركول بوارو" ينزع القداسة، بالشك، عن الجميع. أما "سيمون تمبلار" فينزع القداسة عن الجميع ويضيفها لرصيده، هو أيضا بطل حداثى بمواصفات نيتشوية هشة. "سيمون تمبلار" يصنع حكايته بنفسه وهو بطلها الوحيد. أما "هيركول بوارو" فهناك حكاية سابقة عليه.
***
تمزج "أجاثا كريستى" فى رواياتها صرامة الشك بالإغراء، بالتشويق، بعكس الإبهار المستخدم فى روايات "القديس". تغريك ببعض الأدلة التى تجعلك تشعر بأنك قبضت على القاتل، تقرِّب منك الدليل/ الطعم ثم تسحبه بعد أن تبتلعه. تصيد القارئ وتجعله فى حالة تشويق وإثارة لغريزته، وتحفز فضوله على "الاكتشاف"، وهى أحد الاستخدامات الحديثة لل"الغريزة" كطاقة اكتشاف، وليست كطاقة تبديد فى الجنس. هى تستخدم أساليب الإغراء والتشويق، كما عند القديس، ولكن فى مكان أكثر جوهرية. مسار الرغبة عند أجاثا كريستى موجهة لاكتشاف أحد أسرار الحياة، مثل أوديب، أما عند القديس "سيمون تمبلار" فمسار الرغبة موجه للإشباع النفسى الذاتى.
***
روايات أجاثا كريستى لا تنتصر للخير ولكن تنتصر للدليل، للحقيقة المحجوبة، أيا كان مكانها وطبيعة صاحبها. بمعنى أصح تنتصر للتجربة العملية، لنظرية الاحتمالات، ولأداة الشك العمياء التى لا تفرق بين القوى والضعيف. فحل اللغز هو الأساس، أيا كان المتضرر. كأن هذا "اللغز" مفصول عن أى رسالة إنسانية للعدالة، كأنه سبب لجريمة وجودية قديمة، الجميع مشارك فيها، وضحية لها؛ تتجدد عناصرها باستمرار باختلاف المشهد. السر/ اللغز عند أجاثا كريستى له مكانة أعلى من قضية العدالة المثارة فى روايات "القديس". فى روايات "القديس" المواجهة واضحة تماما منذ البداية، بين فريقى الخير والشر. لا يوجد سر وإنما مواجهة بين قوتين ماديتين. وباقى الرواية سرد لطرق ومغامرات "القديس" للقضاء على قوى الشر بطريقته. فالقديس هو البطل بمواصفات البطولة الحديثة غير الدينية، اللص الشريف الذى يقف ما بين اللص ورجل البوليس، والذى يهزأ من الاثنين، وينافسهما، ويتغلب عليهما، ويتمتع بقدرات تتجاوزهما بوصفهما قطبى النظام، فى نظرته للأشياء، لذا له طريقته المثيرة والممتعة والمختلفة فى تحقيق العدالة.
*** تشعر بأن عالم أجاثا كريستى، بالرغم من أن أحداثه تجرى داخل الحياة العادية، بعكس عالم "القديس" المنفصل والمتجاوز والدائر وسط عالم رجال العصابات والنساء والمخدرات؛ فإنك تلمس عدم واقعيته وتجاوزه ورمزيته الخافتة، كونه يعبر عن سؤال إنسانى قديم. يدور حول أصالة الجريمة والذنب معًا. *** كانت علاقتنا، فى مرحلة مراهقتنا، ملتبسة بالسر والأسرار والغموض والمغامرة، بهذا الجانب المتوزع بين النفس والعقل والغريزة. فالسرية تحيط بالمراهقة من كل جانب كأسئلة غير مجاب عنها، أو كتحولات داخلية غير معروفة السبب. فالمراهقة مرحلة تحول وجودية، وربما حب المغامرة والرغبة فى التجاوز والتضحية، من إحدى علاماتها المميزة، هذه الوثبة الخلاقة وغير المبررة للقوة. كان "سيمون تمبلار"، و"هيركول بوارو" معبرين جيدين عن هذه الفترة، وربما قطباها الأساسيان. كنا نتوق لاكتشاف مصدر قوتنا وتقليل مساحة الغموض البوليسى من حولنا. وأيضا للإتيان بأعمال خارقة ترج مستنقع الملل اليومى، بجانب انتصارنا للحق والعدل، كما كان يفعل "سيمون تمبلار"، بطرقه المبهرة والخاصة. بالإضافة لكونه معشوقا للنساء الجميلات، حتى من غريماته، وهى الصفات التى كان يتوق إليها أى مراهق مصرى فى السبعينيات.
....................... روائية إنجليزية (1890- 1970) تعد أعظم مؤلفة روايات بوليسية في التاريخ، حيث بيعت أكثر من مليار نسخة من رواياتها - ويكيبيديا- الموسوعة الحرة. أونوريه دي بلزاك (1799- 1850) كاتب فرنسي، روائي، كاتب مسرحي، ناقد أدبي، كاتب مقالة وصحفي، يعد من رواد الأدب الفرنسي في القرن التاسع عشر في الفترة التي أعقبت سقوط نابليون. ويكيبيديا- الموسوعة الحرة.
سلسلة روايات بوليسية للروائى الإنجليزى ليسلى تشارتريس وكان بطلها شخصية القديس "سيمون تمبلار".