فى نحو عام 1886م، بعد أربع سنوات من فشل الثورة العرابية بسبب خيانة الخديو وبعض النخب المصرية، واحتلال القوات الإنجليزية البلاد، عاش الشعب المصرى أسوأ سنوات القهر والظلم والشعور بالعجز، وقد حاول أن ينسى أو يتناسى مرارة الهزيمة وانكسار حلم أن تكون: «مصر للمصريين»، فاستسلم البعض للغيبيات وللخرافات وإلى كل ما يجعله لا يرى الواقع بمرارته، على أمل أن يظهر عرابى آخر ينقذهم من القهر، ووسط هذا المناخ كان الرواة الشعبيون يؤججون هذه الأحاسيس بالقصص الشعبية الخرافية التى قد تعين على الصبر وتفتح بابًا للأمل فى ظهور البطل القادر على تخليصهم من هذا العجز والانكسار، وذلك برواية قصص أبو زيد الهلالى وعنترة بن شداد والأميرة ذات الهمة وغيرها من قصص الأبطال التى تسرى عنهم وتجعلهم يتوافقون مع الواقع، وكانت تروى هذه القصص شفاهة فى المقاهى ومناطق السمر. بعد ظهور الطباعة نشرت هذه السير الشعبية بين دفتى كتاب، حيث قامت بعض دور الطباعة بجمع هذه القصص الخرافية وإتاحتها للقراءة بعد أن كانت تروى على ربابة فى الحوارى والموالد والمقاهى والأسواق، وكان من بين هذه القصص سيرة شعبية بطلها الإمام على بن أبى طالب، نسج خيوطها وأحداثها وصور شخوصها أحد الرواة الشعبيين من الشيعة الإمامية، من هو؟ وفى أى عصر عاش؟ وما جنسيته؟ وهل القصة التى ألفها رواها على المستمعين أم أنه دفع بها لأحد الرواة المهرة؟ وهل ألفها باللغة العربية أم الفارسية؟ كل ما نعرفه أن قصة الحصون السبعة، أو حروب الإمام على بن أبى طالب ضد الهضام بن الحجاف ملك الجن، قد وصلتنا فى مصر من خلال أحد الرواة، اختلفوا حول حياته ومصداقيته، اسمه أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن محمد البكرى، البعض أرجعه إلى القرن السادس الهجرى، والبعض الآخر، وهو الأقرب، نسبه إلى القرن الثالث الهجرى، وقد شككت مصادر السنة فى مصداقيته، وأكدت كذبه، وقيل: إنه أكذب من مسيلمة، قال الذهبى فى الميزان: «فما أجهله وأقل حياءه، ما روى حرفًا واحدًا من العلم بسند، ويُقرأ له فى سوق الكتبيين كتاب (ضياء الأنوار) و(رأس الغول) و(شر الدهر) وكتاب (كلندجة)، و(حصن الدولاب)، وكتاب (الحصون السبعة) وصاحبها هضام بن الحجاف، وحروب الإمام على معه وغير ذلك»، وذكر فى شرح مجانى الأدب بأنه: «صاحب كتاب الأنوار والسرور والأفكار فى مولد محمد، وله أيضا كتاب الحكم وغير ذلك، ولا يوثق بروايته، كان يخلق الكلام كثير الكذب، توفى فى أواسط القرن الثالث الهجرى»، وقد وصفه القلقشندى أيضا بالكذب فى صبح الأعشى، والصفدى فى الوافى بالوفيات، كما أن السمهودى (ت 922ه) اتهمه أيضا بالكذب، وكذلك ابن حجر ووصفه بالدجال، قال: «إنه يحوك القصص الباطلة». تختلف سيرة الحصون السبعة عن السير الشعبية التى نعرفها، مثل أبو زيد الهلالى، والأميرة ذات الهمة، وعنترة بن شداد وغيرها فى أنها تنطلق من شخصيات تاريخية دينية إلى شخصيات ووقائع خيالية، كما أنها تضفى معجزات وقدرات لا بشرية للإمام على بن أبى طالب تفوق قدرات ومعجزات النبى والإنسان بشكل عام. يحكى البكرى فى هذه السيرة أن أحد الجان المسلمين جاء إلى رسول الله يشكو له ملك الجان الكفرة، أكد له أنه يسخر قبيلته وبعض قبائل الجن لعبادة الأصنام، وأنه صنع صنمًا وجعل له حفرة سماها النار وأخرى الجنة يعاقب ويحسن فيها لأتباعه، وطلب من الرسول أن يساعدهم على التخلص منه ومن جبروته وكفره، وأكد أن الإمام على بن أبى طالب الوحيد الذى يستطيع هزيمته والقضاء عليه، وتذكر السيرة أن جبريل عليه السلام نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبره أن ابن عمه الإمام على بن أبى طالب هو المكلف بالقضاء على هذا الجن الكافر واسمه الهضام بن الحجاف، وفى السيرة نشاهد الرسول الكريم وهو يستحلف الإمام على أن يوافق على الخروج إليه، هذه السيرة التى رواها أحمد بن عبد الله البكرى المنسوب إلى الشيعة، رويت على لسان الإمام على بن أبى طالب، حيث نسبها البكرى إلى الإمام على رضى الله عنه، ولطرافتها ننشرها على أجزاء بعد أن قمنا بتعريف الأعلام الموجودة بها، وهى فى أغلبها شخصيات حقيقية، بعضها من الصحابة رضى الله عنهم أجمعين، كما قمنا بتعريف الأماكن، وقمنا بشرح الكلمات الصعبة تيسيرًا على القارئ، ووضعنا كل هذا بين قوسين. فى بداية رحلة الإمام على بن أبى طالب إلى محاربة الهضام بن الحجاف ملك الجان الكافر، اقتفى أثره أحد المنافقين لكى يقطع رأسه فى غفلة منه، هذا المنافق يدعى ورقة بن خضيبة (وهو من الشخصيات الوهمية فى السيرة)، وقد صبر عليه ابن أبى طالب رغم خطورته، وفى الطريق قابلهما عبد أسود أمام حظيرة وبصحبته سبعان مفترسان، دعا الإمام والمنافق للراحة فى المنزل، ودخل الإمام بعد إلحاح من ورقة المنافق وظهر لهما السبعان، وبعد أن قتل الإمام أحدهما، أظهر المنافق ما يضمره واتفق مع العبد أن يشتركا فى قتل الإمام ويحملان رأسه إلى الملك الهضام، لكى يحصلا على رضاه، لكن قد خاب ظنهما وقتل الإمام السبع ثم عمد الإمام إلى ورقة وقال: «- يا رأس النفاق، قد أظهرت يا عدو الله ما كنت له ساترًا، وما أنت عليه عازم وضامر، فانظر الآن لنفسك وتدبر أمرك فقد آن أوان قتلك - ثم نادى ورقة: يا ابن أبى طالب، سألتك بحق محمد ابن عمك إلا ما أبقيت على وأحسنت بكرمك إلى. - فقال له: بعد نفاقك وكفرك ما أبقى عليك هيهات هيهات. - فلما أيقن اللعين بالهلاك قال: يا ابن أبى طالب الظلم لا يفارقك ولا يفارق ابن عمك، فحدثنى عما ظهر لك أنت فى طريقك هذه من سوء فعلك مما لا يرضاه الله، ثم افعل ما بدا لك فإنى أشهد أنك أنت وابن عمك ظالمان ساحران. فغضب الإمام من ما قاله ورقة غضبًا شديدًا، وقال له: يا عدو الله، إن الله تبارك وتعالى قد باعد بيننا وبين الظلم والعدوان، وجعلنا من أهل الكرم والإحسان، ويل لك ولقومك، فأنا أكشف لك ولقومك جميع ما رأيته فى طريقنا، أما الرجل الذى أقبلنا عليه وعنده الماء والطعام فإنه كان مسمومًا، إنما صنعه للناس حيلة، فإذا أكل أحد الطعام وشرب من الماء هلك لوقته فيأخذ ما كان معه، وقد أهلك بهذه الحيلة خلقًا كثيرًا، فلما أتيته قتلته عمن قتل من الناس، وأهرقت الماء ودفنت الطعام لئلا يأكل منه الطير والوحوش فيهلكون، وأما الشيخ الذى أتيناه بالمسجد وعنده الجارية فإنها بنته، وهو ينكحها للصادر والوارد، فإذا أنزل عنده سالك طريق عرض عليه ابنته، فإن أجابه إلى ذلك كان، وإلا يتركه حتى ينام ويسرق منه جميع ما معه، فلما قدمت عليه قطعت يديه ورجليه لأجل سرقته، ورجمت الجارية لزناها حتى ماتت، وأحرقت المسجد، وأما هذه الحظيرة وهذا الأسود وهذان السبعان فيقتل بهما جميع من أتى إليه فى هذه الحظيرة، ويأخذ ما كان معه، ثم إن الإمام تقدم إلى ورقة وضربه بذى الفقار (سيفه) على رأسه ففلقه نصفين، ووصل إلى الأرض وعجل الله روحه إلى النار. فلما نظر (العبد) الأسود إلى ذلك حار عقله ونادى: - يا ابن أبى طالب، امدد يدك فإنى أشهد أن لا الله إلا الله، وأن ابن عمك محمد رسول الله، وأنى كنت فى لجج الضلالة سارح، فلا زلت لك منذ هذا اليوم إلا مواليًّا. - فعند ذلك تبسم الإمام على كرم الله وجهه، وقال له: خذ سلب (ملابسه وسلاحه) عدو الله، وامض حيث شئت مصاحبًا للإسلام، فقال: يا أمير المؤمنين إنى لا أكون معك وبين يديك، فقال له الإمام: هذا جبل بعيد لا يصل إليه كل ضامر سلول. - فقال الأسود: هذا الوصف لا أجده إلا لك يا ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم أنت زوج البتول، وابن عم الرسول سيف الله المسلول، إلا يا أمير المؤمنين، سألتك بحق ابن عمك ألا أخبرتنى إلى أين تريد؟ - فقال له: إنى والله أريد الهضام بن الحجاف وصنمه المنيع وحصنه الرفيع لأذيقه السم الفقيع. - فقال الأسود وقد تحول سواد وجهه إلى الإصفرار لما سمع بذكر الهضام. - فقال له: يا أمير المؤمنين، لا تعرض نفسك للهلاك، فطريق ما ذكرته غير سالك، فكيف تصل إليه وبينك وبينه سبعة أودية وفيها سبعة حصون، وكلها مملوءة بالرجال والأبطال، لا يطير عليهم طائر إلا منعوه من الجواز حتى يستخيروه، ووصولك إلى صنمه أبعد من ذلك، وأن له جنة ونارًا ويدخل فى جنته من أطاعه ويدخل فى ناره من عصاه، وأنا أخشى عليك مما أعده من الأهوال. - فقال الإمام: امض أنت إلى حال سبيلك، ومعى ربى تعالى ينصرنى، وهو معى أينما توجهت فهو حسبى ونعم الوكيل، ثم قال له: ما اسمك؟ - فقال له: اسمى هولب. - فقال الإمام: اكتم أمرى ولا تبيح بسرى، وامض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدد إسلامك على يديه. - فقال هولب: يا سيدى هذا الذى ضمرت عليه. (قال الراوى) فعند ذلك ودع (العبد الأسود هولب) أمير المؤمنين، وسار إلى المدينة قاصدًا النبى عليه السلام، وأمير المؤمنين ساير بلاد الهضام حتى ولى النهار وأقبل الليل، فعبد غروب الشمس صلى المغرب والعشاء ثم سافر طول ليلته حتى لاح الفجر فصلى الصبح، ثم سار وطاب له السير وقرب الله البعيد وسهل عليه كل صعب شديد. (قال الراوى) حدثنا أمير المؤمنين رضى الله عنه قال: كنت أرى الجبال الشاهقة أمامى، فبينما أنا أتفكر فى الوصول إليها فما أدرى بنفسى إلا وأنا قد وصلت إليها وعولت عليها بحول الله وقوته، ولا أدرى بتعب ولا ألم، كل ذلك بحول الله سبحانه وتعالى وبركة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنشد وجعل يقول شعرًا: طاب المسير بنور الله إذ لمعا وبأن ضوء الفجر إذ طلعا. واد الظل (قال الراوى) وسار الإمام على رضى الله عنه يطوى المنازل ولا يعوج المناهل (مورد الشرب على الطريق) إلى أن وصل إلى أرض اليمن، جعل يكن بالنهار ويمشى بالليل إلى أطراف البلاد وشرف على العمران، حتى وصل إلى واد الظل وهو أول الأودية السبعة، وهو واد معشب أخضر نعمه عظيمة كثيرة النبات والأشجار والمياه، والظل المديد واختلاف الألوان وحسن الأطيار(مفردها: طير، وتجمع طيور وأطيار)، إذا فيه رعاة معهم أغنام، ثم نظر إلى صدر الوادى، فإذا هو بحصن حصين وهو يسمى حصن الوجيه، وهو فى صدر الوادى يلوح كأنه لؤلؤة له نور ساطع وإشراق لامع، فلما نظر إليه الإمام حمد الله تعالى وشكره وأثنى عليه على تيسير العسير الذى قرب إليه البعيد وسهل كل صعب شديد. (قال الراوى) ثم إنه انحدر إلى ذلك الوادى، وإذا عارضه نهر ماء جار يلوح صفاء بياضه والخيل والأنعام والإبل وسائر المواشى، مرعاه (المرعى: جمع مراع وهو موضع الرعى، العشب) البر الآخر مما يلى ديار القوم والرعاة مجتمعين، ومعهم واحد بيده غابه يصفر بها، وقد نظره القوم وهم يرتجزون الأشعار، فنزل الإمام رضى الله عنه إلى جانب النهر، وقد نظره القوم فلم يخاطبهم، ثم إنه حل منطقه وتوضأ وصلى، فلما رآه القوم يصلى بهتوا إليه ولم يدروا ما هو صانع؟ وقد دهشوا من ركوعه وسجوده وقيامه وقعوده، فقطعوا ما كانوا فيه من لهوهم ولعبهم، وقال بعضهم لبعض: كأن هذا من بعض كتب العرب، فقال بعضهم إنما هو جنة، وقد أكثر القوم فى الإمام رضى الله عنه، وهو مشغول بما هو فيه. (قال الراوى) فلما فرغ من صلاته مال متكئا إلى جحفته (قربة الماء)، فقال بعض القوم: - من أين أنت أيها الرجل؟ - فقال لهم: من طين من حمأ مسنون خلقنى وقدرنى الذى يقول للشىء كن فيكون. - فقال لهم الراعى: ألم أقل لكم إنه مجنون قذفته جنية إلى هذا المكان فترك الراعى قول أصحابه، وقالوا: يا هذا من أين أقبلت؟ - فقال له الإمام: من عند مولاى الذى كفانى بنعمته ونعمنى بفضله وكرمه. - فقال الراعى: أفقير مولاك أم غنى؟ - فقال الإمام مولى الموالى علمه بحالى يكفى عن سؤالى مالك المشرق والمغرب والبر والبحر والسهل والوعر والأرض والسماء عليه توكلت وبه أستعين. - فقال الراعى: صدقت وبالحق نطقت، أقدم علينا أيها الرجل، فالطريق أمامك هذه الصفة صفة الهناء المنيع، وهو فى إحسانه بديع، ثم أنهم سروا سرورًا عظيمًا وفرحوا به فرحًا شديدًا، وقالوا له: - يا فتى بلغت السلامة ومناك وأدركت هواك فإن أحببت تأتى إلينا فدونك والجسر عن يمينك، واجعل راحتك عندنا لتسر بنا ونسر بك. - فقال لهم: الإمام من يهدى الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، وإنى أرجو أن أكون على الطريق متبع النبى الناصح. (قال الراوى) فاعرض الأعيان عنه، لأنهم لم يفهموا كلامه، وقالوا له: إن فى كلامك تخليطًا وفى لسانك تفريطا، إن كلامنا لك ضايع فاعرضوا عنه، ورجعوا إلى لعبهم ولهوهم، وأقام الإمام رضى الله عنه مكانه إلى أن وجب العصر فصلاه، وإذا بالرعيان (تجمع أيضا: رعاة، ومفردها: راعى) تصارخوا وتصايحوا، فقال لهم الإمام: معاشر القوم ما صراخكم؟ فقالوا: ننظر إلى قطيع الظبا (الظبى: اسم الذكر، والجمع: أظبٍ، وظباء، وظُبيّ، والأنثى ظبْية) منحدرا من الجبل، فلما نظر الإمام إلى داره ووثب قائمًا على قدميه ثم نزع أطماره (ملابسه البالية، ومفردها: طمر) وسلاحه، وقال لهم: دونكم وحفظ أثوابى وسلاحى، فقالوا: وأين تريد؟ فقال: أريد هذه الظباء لعلى أنال ظبيًا، فلم يبق أحد منهم إلا وقد ضحك من قوله، واستهزأ عليه، ثم قال بعضهم لبعض: ألم أقل لكم إن الرجل هائم على وجهه مخبوط فى عقله، ثم تركهم الإمام ومضى وهم ينظرون إليه ويظنون أنه لا يبرح من مكانه لعظم خلقته وكبر بطنه، ثم إن الإمام قام حتى توارى عن أعين الرعاة، وقد قطع الشعاب وهو يشب من ربوة إلى ربوة ومن شجرة إلى شجرة، ثم أدركها وهى فى شدة جريها فقبض على اثنين منها واحدة بيمينه وأخرى بيساره، وأقبل كأنه الريح الهبوب والظباء فى يديه، فلما رأى الرعاة الظباء فى يديه كبر الإمام فى أعينهم، ولم يزل الإمام سايرًا حتى أتى سلبه (ملابسه) واستخرج سكينًا وذبحهما وسلخهما وأجاد غسلهما، ثم حفر حفرة والتفت يمينًا وشمالًا يطلب حطبًا فلم يجد شيئا من ذلك الحطب، ورمى فى الحفرة حتى ملاها، ثم قدح زناد وخرج نار أضرمها فى ذلك الحطب، فتأججت وصار جمرا، فكشف الجمر عن الحصى، وأخذ الظبيين ورماهما فى الحفرة وردم عليهما النار من فوقهما. هذا والرعاة ينظرون إليه ويتعجبون من فعله، وهابوا أن يتقدموا إليه وأمسكوا عن سؤاله، فلما فرغ الإمام مما أراد غسل يديه ولبس ثيابه، وقعد ينظر غروب الشمس، لأنه كان صائمًا، فقال الرعاة: يا فتى نحن ضيوفك الليلة لتطعمنا مما اقتنصت من الظبا، فقال الإمام: إنما يضاف من يكون قاطنا بالديار، فقالوا له: سألناك بإلهك الذى تعبد ألا ما عرفنا باسمك الذى تعرف به لأننا رأينا منك ما لم نره من أحد من غيرك، فقال لهم: اسمى زيد، وكانت أمه سمته زيدا، وسماه أبوه حيدر، وسماه النبى عليا لما أمره الله أن يسميه بذلك الاسم الحسن (فى التوراة إله بنى إسرائيل هو الذى يسمى الأنبياء عند ولادتهم)، فقالوا له: يا فتى لقد أعطاك الله من الشجاعة ما لم يعطه لأحد، وبقى القوم يتحدثون، فبينما هم كذلك، إذ وقعت صيحة من الوادى وتتابع الصياح، فجعلت الرعاة تمرد أغنامها يرومون (يطلبون) أن يجمعوها، وأسرع بعضهم إلى بعض إلى أهل الحصن والإمام ينظر إليهم، وإذا بخيول مسرعة فظن الإمام أن أهل الحصن فرحوا له، فلم يكن من أمره إلا أنه شد منطقه (حزامه) وقبض على جحفته (بقايا الماء) فأقبلت الخيل أفواجًا فى الوادى، وكانت أربعة آلاف، حمية لأصحابهم أن يطرقهم طارق، وفرت جميع الرعاة فى جميع خبايا الوادى يبكون ويتصارخون، فقال الإمام: تبكون وليس لكم مال ولا نوال (نصيب)، إنما المال لغيركم وأنتم مستأجرون، فقالوا له: يا فتى إنما نبكى على أنفسنا، لأن سيدنا الأعظم الهضام إذا أخذ له مال رجع بالقيمة علينا، يقول: أنتم علمتم مالى لأعدائى، فلم يرض بالقتل بل يحرقنا بناره، وفعل ذلك بمن كان قبلنا من الرعاة، وقد رأيت ما دهمنا كثرة الخيل، فقالوا: ولو كان مليكنا الهضام وإلهه المنيع لما وصلوا إليهم هؤلاء الأقوام، ولم يخلصوا الغنائم من أيديهم، لأنهم قد عرفوا بالبلية وصاحبهم قد يتم العرب، ولا تقتصر يده إلا عن بلدة واحدة، فقال الإمام: ما هذا البلد التى لا يضرب إليها؟ فقالوا له: مدينة يثرب مسكن عبد الله، بها فارس لا كالفرسان، ويقال عنه: إنه مفرق الكتائب وهازم الجيوش ومفرق المواكب، الحسام (السيف) الغاضب، والليث الغالب، والبحر الساكب، ليث بنى غالب أمير المؤمنين على بن أبى طالب.