أعتقد أن "السد العالى" قد ظلم تاريخيا. بوفاة عبد الناصر تحول فى كتب التاريخ والدراسات والمقالات إلى شبح، وتمت معاقبته سياسيا وربطه بمشروع عبد الناصر الشمولى والمركزى فى التنمية والحكم. لو تمت مقارنته بقناة السويس، وهو المشروع الأقدم والمتصل أيضا بتحويل مجرى المياه، سنجد أن قناة السويس دخلت فى سياق أوسع ومركب من الجدل، وتم التركيز عليها إعلاميا وتناولها بالدراسات العديدة، وأخذت مع الوقت تحتل صدارة مناهج البحث التاريخية الحديثة فى التنقيب فى دفاترها ووثائقها لوضع صورة كاملة وسينمائية حول حياة المصريين الذين عملوا بها وقتها، وكم التضحيات التى بُذلت. بينما دخل السد العالى طي النسيان. ربما السبب يرجع لضخامة التضحيات فى شق قناة السويس، وأهميتها فى الملاحة العالمية، وأيضا كونها ابنة لوجود استعماري/ أجنبي، أى هى الابنة المُتنازع عليها، والمُستردة من حضن الاستعمار، لذا هناك دائما ميراث أجنبي يتنازع عليها ويشارك فى ولادتها- كما يتم التنازع على الإسكندرية- ويوجه لها الدراسات وغيرها، بوصفها أحد رموز لحظة التعدد والشاهدة عليه، كأنه مشروع العالم كله. أما السد العالي فهو إرث مصري خالص، ابن متمرد لحركات التحرر، ربما لهذا السبب أهمل عالميا، وخرج من تصنيفات النظريات الحديثة فى مراجعات التاريخ، التى تحاول أن ترى "التاريخ البديل"، من منظور الفئة المستضعفة، أو الإنسان المهمش البعيد عن السلطة والمركز والعائش فى الظل، ليعاد له صوته وصورته وتشكيل حياته من جديد. آخر هذه المحاولات لتسليط الضوء على "السد العالي" هو كتاب الروائى يوسف فاخورى "التاريخ الإنسانى للسد العالى"، والذى يحتوى على ثلاث مقدمات للمؤلف بالإضافة لمجموعة من الشهادات للذين عملوا فى السد العالى من عمال وفنيين ومهندسين وسياسيين، وأيضا من أهل مدينة أسوان الذين شهدوا تحول المدينة فى وجود السد. ربما الدافع وراء كتابة هذا الكتاب، بعد هذه السنوات الطويلة؛ شخصي، كون الكاتب عايش فى طفولته حدث بناء السد العالى، والذى يصفه فى المقدمة بأنه غيَّر روح المدينة ومصر كلها ووضع أقدامها على بدايات تحول لهذا المجتمع الزراعي الراسخ. وأيضا هناك رصد لحياة وتحولات الناس (العمال، الفنيين، المهندسين) البعيدين عن المشهد الرسمي، ليعيدها إلى صدارة المشهد، كما يصف فى المقدمة. ربما كان الكتاب يحتاج لشهادات أكثر للعمال الذين عملوا فى السد العالي، ليستوفي المعنى الذى الذى يبحث عنه. وربما كان يحتاج لمعاصرة أكثر لتسجيل الحدث، والذى تم تسجيل شهاداته عام 2003، أى بعد ما يزيد على أربعة عقود من الانتهاء منه. ولكن يبدو أن هذا الكتاب يمثل لحظة مخطوفة قبل أن أن يُسدل الستار على هذا المشروع سياسيا وتاريخيا. تتناثر فى شهادات الكتاب العبارات الروائية والشعرية الدالة على لسان أصحابها. وأيضا تقتسمه رغبتا رسم صورة للحياة اليومية والصعوبات التى كانت تواجه العمال والفنيين أثناء مرحلة البناء، وأيضا رصد تحول المزارعين إلى "أسطوات". هذه النقطة الأخيرة تعنى التحول من فكرة روحية تكتنف العمل والمجتمع الزراعى إلى فكرة مادية ترتبط بالمجتمع الصناعى. تشعر بأن الجميع يضع أذنه على جسم هذا السد ليتحسس نبض هذا القلب الصناعى الوليد، يريدون بث الحياة فيه بالكراكات وأنابيب الحقن والخراسانة والطمى وبشق مسارات بداخله. هذا التحول الروحي الذى يرصده الكاتب فى شهادات العمال والفنيين والمهندسين، شبيه برحلة حراجي القط، العامل فى السد العالي، بطل ديوان الشاعر عبد الرحمن الأبنودى، الذى آمن بالسد العالي، كلحظة تنوير غيرت حياته، ومهما كلفه تبعات هذا التنوير، بأن يترك دفء بيته وأسرته، وحياته القديمة وأرضه، ويمشي وراء السد أينما ذهب: طرقات وأسفلتا وكهرباء. هذه العلاقات الجديدة التى طرحها السد وغيَّر بها من البنية النفسية للعاملين به. بالتأكيد بناء السد العالي يعتبر نقلة حداثية ولحظة تنوير لهذا المجتمع، بإدخال علاقة جديدة تتوسطهم مع الطبيعة، فبجانب المجتمع الجديد من العمال الذى كان قوامه حوالى 34 ألف عامل بجانب ألف وسبعمائة خبير روسى، وتحسن الأحوال المادية للجميع؛ كلها مهدت لبداية مرحلة تحول على المستويين الداخلى والخارجى. إنهم فى علاقة جديدة مع النهر الذى كان يقهرهم أحيانا بفيضانه، هم الآن فى موقع القوة أو التحكم فى الطبيعة، ومردود هذه الثقة ظهر بوضوح فى التحولات النفسية لحراجي القط وتنضح بها رسائله. طوال شهادات الكتاب تلحظ انصهارا بين المعلومات العلمية الدقيقة المخلوطة مع المشاعر الإنسانية: لحظة انصهار بين المعنى والمادة، بل وإكساب المادة معنى روحيا. فالجميع يشعر بأن هذا المشروع درجة ترق روحى ومادى للوطن ولهم. لذا هناك "لحظة تسام" تأخذ كل شىء فى طريقها. ربما كانت هذه الروح المتسامية تحاول أن تتساوى مع الطبيعة وليس أن تقف ضدها، أنهم لاينتقمون من النهر بل "يلجمونه" كما يصف يوسف فاخورى مؤلف الكتاب، أو يتساوون معه نفسيا. لذا تكون لحظة تنويرهم وتحولهم ليست بمعنى الصراع مع الطبيعة كما هو مطروح فى الفكر الأوربى. فالتنوير الذى سببه مشروع السد العالى تنوير وسطى وليس جذريا. تحول موقع العمل إلى ما يشبه المصنع الكبير، حوالى 34 ألف عامل بالإضافة للخبراء الروس داخل هذه البوتقة التى تعمل على ثلاث ورديات. مصنع كبير يشكل كل علاقات التصنيع من تقسيم للعمل ومواجهة للآخر، وبزوغ نوع جديد من الأحاسيس الشخصية تخلط بين الاغتراب والتوحد، بين الكلي والجزئي. كان هناك تنقل دائم بين نوعين من الشعور الجزئي والكلي. يقع الكتاب فى منطقة وسطى بين التوثيق المباشر بالمعلومات، والسرد الذاتى. بالطبع بسبب كونها شهادات، ولكن مع الوقت يتضح أن هناك دافعا منهجيا من الكاتب فى إثارة هذا النوع من الأسئلة التى تتعلق برسم "صورة روائية" للموقع الذى كان يتم فيه العمل فى "جسم السد"، وأيضا السؤال عن التحول الحياتى والروحى لهذه التجربة الكبيرة وانعكاسها على المعايشين لهذه الحكاية الكبيرة. يجرى السرد فى عرض الشهادات للقبض على لحظة مفارقة/ تحول فى حياة صاحب الشهادة. إنه زمن مفاجآت، فكل شىء قابل للتحقق، حتى فكرة "المساواة"، بكل أطيافها، بين العامل والمهندس، بين المحكوم والحاكم، أصبحت واقعا، وظلت المسيطرة على علاقات الموقع لحظة الإنجاز. فالكل يعيش داخل لحظة مثالية. الحياة لم تكن مثالية على طول الخط، فداخل أى تجربة كبيرة كبناء السد، هناك مقياس جديد للخطأ، ونظرة مختلفة للعادات والتقاليد. يحكى أحد العمال عن توافر من ثلاث إلى أربع غرز لشرب الحشيش فى كل موقع (الكتاب ص 84). بعد وردية مشحونة يدخنون الحشيش، لحظة تحرر وفرها الإنجاز المتوقع، ومساحة جديدة للحرية الشخصية وحدود الرقابة، سواء فى موقع السد، أو فى مدينة أسوان التى تأثرت بهذا المشروع. اتسع المنظور الشخصى، وحدود الضمير العام، المدينى. ففى مدينة أسوان انتشرت السينمات ومحلات شرب وبيع الخمور (الكتاب ص 85 - 86) ونشوء حى للدعارة، بسبب السيولة المادية التى وفرها العمل فى السد العالى، وفى وجود ثقافة أخرى متمثلة فى الخبراء الروس، وأيضا لاتساع المنظور الشخصى لحريات الفرد والجماعة، خلال لحظات الإنجاز. فى رواية الروائى صنع الله إبراهيم "نجمة أغسطس"، والتى يؤرخ فيها بطريقته لسنوات بناء السد العالي؛ كان الصحفي بطل الرواية يواجه قيلولات حارة مملة، فما كان عليه فى كل مرة إلا أن يفتح زجاجة بيرة باردة. حضور لحظات شرب البيرة وكثافة ملل هذه اللحظات، تفوقا أحيانا، فى تأثيرهما، على علاقته بالفتاة الروسية التى أقام معها علاقة. ثبَّت الكتاب من خلال الشهادات والأسئلة التى وراءها، على مجموعة من الأيقونات المصورة، منها الحضور البطولى للكراكة، ومخاوف لحظات التفجير، ولحظة تحويل المجرى وتدفق المياه بقوة، وطريقة الحقن لصنع ستارة من الخرسانة تمنع تسريب المياه كأنك تحقن بدقة داخل وريد بشرى، وأيضا لحظة تشغيل التوربينات، وحياة الأنفاق. كلها أصبحت أبطال العمل، بجانب التحولات الشخصية. خلال السرد هناك مصائر تتحول باستمرار قبل وبعد بناء السد، بوصفه نقطة فارقة فى حياة مصر/ المدينة/ الأشخاص. عندما يسأل الكاتب أحد المهندسين عن ما الذى منحه له السد يقول له المهندس فى معرض إجابته "أنا اتولدت فى السد العالى". (ص 170). العاملون فى السد كانوا يعتبرون أنفسهم المكان الأصيل فى مصر، وكل ما يقع خارجه تافه، لا يعمل ولا ينتج شيئا. هذا الإحساس الذى نقل الجميع ليكونوا فى مركز حدث ما، بالرغم من كونهم هامشيين فى الحياة ولا يشعرون بهذا الثقل، إلا أن دخولهم هذا المشروع جعلهم "هامشيين مركزيين". هناك اعتزاز واسترداد لحس وثقة شخصية وطموح نفسى، يندر أن يتوفر ببساطة فى أى موقع آخر فى ذلك الوقت.(ص 83). ............................................................................................. * يوسف فاخورى. التاريخ الإنسانى للسد العالى. الهيئة العامة لقصور الثقافة. 2016. ** بالتأكيد لا ننسى محاولة كل من صنع الله إبراهيم وكمال القلش ورءوف مسعد فى سفرهم لآسوان وقت تحويل مجرى النهر عام 1964 والذى نتج عنها كتاب "إنسان السد العالى"، والذى يحوى مشاهدات وشهادات وتأملات حول مشروع السد. *** بطل ديوان عبد الرحمن الأبنودى "جوابات حراجى القط".