منذ قادت تونس دول ما يعرف بالربيع العربى، إن كان كذلك فعلًا، وتلتها مصر التى حجبت بزخمها وأحداثها ووقائعها طيلة العامين ونصف، فتح الباب على مصراعيه لإثارة التساؤل الإشكالى المزمن: هل نحن فى حاجة إلى ثورات سياسية فقط لإزاحة النظم الحاكمة والتدشين لعصر الجمهوريات الحديثة أم أن فى حاجة ملحة إلى ثورة إصلاح دينى وفكرى ونهضوى مفقود وغائب طيلة القرنين من الزمان هما عمر ما يقال إنه العصر الحديث. فالدولة العربية الحديثة كانت «دولة قوة» لا «دولة عدل»، والربيع العربى الحاصل حاليا هو احتجاج صارخ على «دولة القوة»، وسعى لتجاوزها إلى تحقيق «دولة العدل». ربما تكون هذه هى الفكرة المحورية التى يدور حولها كتاب «ثورات العرب.. خطاب التأسيس» الصادر عن دار العين للنشر والتوزيع، لمؤلفه المفكر المصرى، الأستاذ الدكتور على مبروك، أستاذ الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام بجامعة القاهرة. يوضح المؤلف فى استهلال كتابه أنه سيتعامل مع الحدث الثورى ليس باعتباره مجرد سقوط لنظام، أو لأنظمة سياسية، لكن باعتباره إعلانا لفشل خطاب نهضةٍ ساد خلال القرنين الماضيين، وأنه إذا كنا بإزاء حدث ثورى كبير فنحن بصدد الانتقال من هذا الخطاب إلى خطاب آخر، هو «خطاب التأسيس». لكن السؤال الذى يطرح نفسه بالضرورة: كيف يمكن لنا الانتقال إلى هذا الخطاب اللازم «خطاب التأسيس» دون نقد أو مراجعة جذرية لمنظومة المصطلحات والمفاهيم والأفكار التى سادت أكثر من قرنين؟ فى محاولته للبحث عن إجابة عن هذا السؤال، أوضح مؤلف الكتاب أنه لا بد من السعى إلى التحرر من سطوة العوالم (القديمة وامتداداتها الحديثة)، والتفكير خارج فضائها الآسن، وعلى النحو الذى يفتح الباب حقًا لخطاب الفجر الذى ينبلج الآن. وضمن هذا السياق، فإنه تجدر الإشارة ويلزم التنويه بأن هذا التحرر لا يتعلق أبدًا برفض أىٍّ من «الدين والحداثة» بقدر ما يتعلق بضرورة تجاوز خطاب «القوة» الذى استبد بهما، إلى خطاب «الحق» الذى جرى تغييبه فيهما. إذن يتصدى الكتاب بشكل أساسى، وعبر فصوله الخمسة ومشهد الختام، لمحاولة بلورة هذا الخطاب التأسيسى الجديد لكل المفاهيم الإشكالية مثل «الدين» و«الدولة» و«الموروث»، بحيث تتحول معه الثورات العربية إلى حدث تأسيسى موازٍ لعلاقة جديدة بين المجتمع والدولة، وعلاقات جديدة مع التراث والحداثة، وسيكون الخطاب الجديد بمثابة إعادة تأسيس جديد لكل تلك المفاهيم الإشكالية. وعن أهم الشروط اللازمة لتأسيس النهضة الحديثة، يؤكد المؤلف ضرورة خلخلة وتفكيك المنظومة الفقهية والعقائدية، كأحد الشروط المعرفية والثقافية لبناء مشروع النهضة الجديد، حيث إن منظومات الفكر الإسلامى القديمة لم تعد قادرة على الإجابة عن تلك الأسئلة الجديدة مما يجعل التحدى الأكبر فى الإجابة عن تلك الأسئلة هو الخروج من دائرة التفكير القديمة، ولن يتم هذا إلا من خلال دراسة معرفية خاصة تستجلى وتستقصى الأساليب والأسس التى تقوم عليها تلك المنظومة، حتى يمكننا تجاوز مفهوم «الاجتهاد» بمعناه التقليدى، لأنه ممارسة خاضعة للقواعد المحددة للمنظومة القديمة، ونحن فى أشد الحاجة لأن نعمل خارجها الآن ونفتح الباب لبلورة منظومة نقدية جديدة تستلزم تأسيس وعى نقدى مستقل. كما يؤكد أنه لا يعنى أبدًا التوقف عن العمل على المستوى السياسى والإجرائى، لكن بالأحرى العمل على مستويين مستوى سياسى ومستوى ثقافى عقلى، بحيث تخضع المنظومات المهيمنة فى المجتمع للوعى النقدى، وعلى رأسها تلك المنظومات الفقهية والعقائدية. وتطبيقًا على الحالة المصرية، أوضح مبروك أن الحوار المصرى الراهن، كمثال، حول الدولة المدنية لم يجاوز بعد منطقة الشعار، وأن كل ما يقال فى سبيل تحقيقه ينصب فى غالبيته على الجانب الإجرائى والسياسى والأيديولوجى، وكأن هذه الإجراءات معزولة عن الشروط الثقافية والعقلية التى تحققها، فالحديث عن الدولة المدنية ما زال يدور حول حدودها الإجرائية المتمثلة فى دستور جديد، وانتخابات نزيهة، دون النظر فى الأسس الفكرية لتلك الدولة، ودون النظر إلى إمكانية وجود الشروط الفكرية والثقافية التى تمكن تلك الدولة من الوجود أم لا.