في 2016 الذي سمته السلطة عامًا للشباب، جاءت عمليات القبض والحبس وأحكام السجن لعشرات ومئات الشباب؛ لتؤكد أن العلاقة بين السلطة والشباب تواجه أزمة جادة وعميقة، جوهرها في الحقيقة ليس كما تحاول السلطة تصديره بأنها تسعى للحفاظ على الدولة في مواجهة تحديات عديدة، بينما الشباب لا يفهمها ولا يراعي ذلك، ويتسبب بتهوره في هدم مؤسسات الدولة، بل لأن منهج التفكير والتصورات والرؤى التي تُعبر عنها السلطة وتمارسها تنتمي للماضي، بينما الأجيال الجديدة بانفتاحها وقيمها وأفكارها تتطلع إلى المستقبل، وربما ينجح الماضي أحيانًا في حبس وحصار المستقبل، لكن النتيجة النهائية إذا استمر هذا الصراع محسومة دائما للمستقبل وأصحابه. (1) أسوأ ما قامت به السلطة الحالية على الإطلاق هو موقفها من قضية جزيرتي تيران وصنافير، ليس فقط الموقف ذاته الذي بدا وكأن مصر تدافع عن سعودية الجزيرتين، وتقدم كل ما يمكنه أن يستخدم في إثبات ذلك، وهي سابقة تاريخية لم نرى لها مثيلا من قبل، بل وفي طريقة إدارتها لهذا الملف والتعامل مع الخلاف حوله، من بدايته وحتى الآن، ما جعلها في صدام مباشر مع قطاعات واسعة من المجتمع، لكنه صدام غير مباشر، أما قاطرته التي جاء الصدام معها واضحًا وجليًا فكان قطاعات واسعة من الشباب، الذين يفضلون أن يسمونهم (نشطاء)! ولم تكن نتيجة هذا الصدام سوى المزيد من تعميق الفجوة الواضحة بين السلطة وبين أصحاب المستقبل.. أزمة السلطة الحقيقية فى قضية الجزر نابعة من كونها قضية تتعلق بصلب ما كانت تقدم نفسها من خلاله دائما ، وهو الحفاظ على الوطن وتماسكه وسلامته ، بينما هى تعلن بوضوح أنها تعترف بملكية دولة أخرى حتى وإن كانت عربية وشقيقة لجزء من الأراضى التى تربت وكبرت أجيال مختلفة باعتبارها أرض مصرية ، ومن هنا فقد كانت المعارضة لهذا الموقف خطرا كبيرا فى اعتقاد السلطة عليها أن تواجهه بكل الحسم ، أو بمعنى أدق بكل القمع ، خاصة أن هذه المعارضة فى بدايتها على الأقل بدت أنها تحظى بغطاء واسع من التعاطف الشعبى ، فكان لا بد من التخويف والترهيب ، وكان لا بد من تشويه صورة هؤلاء المعارضين ، لكن المذهل هو أن الأمر تجاوز كل حدود العقل والمنطق بأن صار المدافعين عن مصرية الجزر متهمين بإثارة الشائعات الكاذبة ، وأصبح الشباب الذى ظل يروج لأن بعضهم ممولين وخونة وعملاء هم من ينحازون للدفاع عما يؤمنون بأنه جزء من أراضى الوطن. (2) رغم أن الأحكام التى صدرت بالحبس لمدة 5 سنوات فى حكم درجة أولى ضد 47 شاب قد تم تخفيفها ، إلا أن الحكم الذى ألغى الحبس قرر الإبقاء على الغرامة المالية البالغ قدرها مائة ألف جنيه لكل من هؤلاء الشباب ، وهى غرامة باهظة ومعجزة لأى منهم ، خاصة أن أغلبهم من أبناء الطبقة الوسطى محدودة الإمكانيات التى تعيش اليوم بيومه كما يقول عامة المصريين .. هذه الغرامة المكلفة والتى قد يعجز البعض وربما الأغلب بل ويحتمل أن يكون كل من صدرت ضدهم عن سدادها ، هى فى ذاتها عقاب قاسى ، على شباب لم يفعل سوى أنه سعى للتعبير عن رأيه سلميا بالتظاهر .. لكن المسألة لم تتوقف عند هؤلاء بل هى لا تزال ممتدة لمئات غيرهم ، بينهم من صدرت ضده أحكام بالحبس عامين ولا يزال جارى نظر الاستئناف ضد هذا الحكم ، وبينهم من لا يزال قيد الحبس الاحتياطى فى قضايا أخرى على خلفية نفس القضية الأساسية وهى قضية الموقف من الجزر ، لكن الخلاصة هى أن هؤلاء وأغلبهم من الأجيال الشابة ، بل وبينهم قصر تم إحالتهم لمحكمة الطفل ، أضيفوا لقائمة أخرى طويلة تقبع فى السجون والزنازين فى قضايا متعددة الكثير منها متعلق بحرية الرأى والتعبير السلمى ، والكثير منها على خلفية قانون التظاهر الذى جاء منذ صدوره ليصبح نقطة خلاف فارقة بين قطاعات من الشباب وبين هذه السلطة ، واتضح بجلاء أن هذا القانون ونصوصه صار سيفا مسلطا على حرية التعبير والحركة وصار أداة تستخدمها السلطة فى سبيل تقييد حرية معارضيها وقمع أى تحرك لهم .. المشهد باختصار وبوضوح شديد ، أن المستقبل وراء الزنازين ، بينما الماضى يحاول بكافة السبل أن يفرض قبضته على الوطن والمواطنين ، ظنا بأن هذا قد يخلق استقرارا أو أمنا أو حفاظا على الدولة ، التى بدلا من أن ندفعها جميعا لتصبح دولة حرة عادلة مستقلة ناجحة كفؤة ، نصر على إستعادة شكلها القديم البالى الذى لم يسفر سوى عن خروج الملايين فى 25 يناير ، لا ضد الدولة، بل ضد السلطة التى أدارات الدولة بإستبداد وفشل وفساد . (3) لا يبدو أن حصار المستقبل يتوقف عند حدود سجن المتطلعين له والباحثين عنه والمنتمين إليه ، بل يمتد لحصاره بأعباء شديدة الثقل والكلفة ، وكأنه لا يكفينا الحجم المهول من الديون وفوائدها التى تعانى منها مصر ، ولا يكفينا الحجم المذهل والآخذ فى التزايد من القروض التى تحصل عليها مصر على مدار السنوات القليلة الماضية فى محاولة لتجاوز أزمتها الاقتصادية التى تبدو أعمق كثيرا من حلها بمجرد قروض ، ولا يكفينا كذلك إغراقنا فى عدد واسع وكبير للغاية من المشروعات القومية التى يعتبرونها إنجازا رغم خلاف سياسى وإقتصادى من جانب كثيرين مع بعضها ، سواء من حيث الأولوية أو العائد أو التفاصيل الفنية ، وهو اختلاف يعود فى جوهره لمسألة السياسات الاقتصادية والانحيازات الاجتماعية ، لكنه فى جانب رئيسى منه يتعلق كذلك بما هى الأولويات التى تستحق إنفاقا كبيرا يعالج جزء من مشكلات الوضع الاقتصادى والاجتماعى فى مصر .. لكن بالإضافة إلى كل ذلك ، تأتى مفاجأة الإعلان عن قرار رئيس الجمهورية بالموافقة على قرض روسى قيمته 25 مليار دولار لتمويل إنشاء محطة نووية ، وهو القرض الذى يمتد أجله حتى عام 2028 بفائدة سنوية قدرها 3% ، وهو رقم مفجع ومقلق للغاية يضيف عبئا كبيرا وضخما على مصر واقتصادها وعلى أجيالها المقبلة التى ستصبح مكبلة بالديون والفوائد التى عليها سدادها ، والمشكلة الأكبر أنه مع أهمية قضية إمتلاك مصر للطاقة النووية ، فإن هناك الكثير من المسائل الفنية التى تبدو محل تفاوت فى التقديرات من جانب خبراء ومتخصصين ، ومع ذلك يتم الإتجاه للبدء فى هذا المشروع وبكل هذه التكلفة الضخمة وبقرض خارجى ستظل أعبائه قيدا لا على السلطة الحالية وحدها بل على الأجيال القادمة وعلى مستقبل الوطن . (4) من تغيير خرائط وحقائق التاريخ مثلما يجرى فى قضية جزيرتى تيران وصنافير ، إلى محاصرة الحاضر بممارسات عديدة أبرزها سجن الشباب وتقييد حريتهم ، إلى مصادرة المستقبل وتقييده بأعباء اقتصادية ومالية مرهقة ومكلفة .. يبدو أن القادمين من الماضى والساعين لتجديد دمائه واستعادة سياساته حتى وان تغيرت الوجوه بل والانتماءات والتوجهات نسبيا ، يصرون على تكرار نفس الأخطاء التى تصل لدرجة الخطايا ، ويعيدون إنتاج نفس الأزمات والمخاطر ، ويواجهون التحديات بنفس المنهج فى التفكير وبنفس الرهان على قوتهم التى تغرهم ، ودون أى عظة أو عبرة من دروس التاريخ القريب للغاية .. هؤلاء يراهنون على أن شعبيتهم هى الحماية دون أن يلاحظوا حجم تراجعها وتناقصها المتزايد ، ويأملون فى نجاح الترهيب والقمع فى وأد كل مساحات الحرية التى انتزعت بتضحيات غالية ، ويتصورون أن المشكلة فى العهود السابقة كانت السماح بهامش حرية أخذ فى الاتساع حتى وصل إلى 25 يناير وما بعدها ، بل ويعتقدون أن كل من اختلف معهم هم أهل الشر .. هنا تبدو الأزمة الحقيقية ممتدة لما هو أبعد من السياسات والممارسات ، إلى منهج التفكير ذاته ، الذى لا يدرك أن أهل الشر هم من يحملون سلاحا ضد الوطن والشعب ، وأن أكبر الداعمين لهم حتى وإن لم يدركوا ذلك هم المستبدين الذين يعتبرون الحرية رفاهية، وأن شق الصف الوطنى يبدأ بمنع التعدد والتنوع والإصرار على الاصطفاف فى طوابير تؤدى التحية وتؤكد أن كه تمام يا افندم، وأن احتكار الوطنية لا يختلف كثيرا عن احتكار الدين ، وأن تهميش الدستور وتوظيف القانون بحسب الأهواء هو أول خطوات انهيار الدولة ، وأن شيوع الظلم وغياب مظاهر العدل هى أولى خطوات الفوضى ، وأن الدفاع عن الحرية والكرامة ، والإنحياز للعدالة الإجتماعية ، والإيمان بأن مصر قائدة ورائدة لا مجرد شريك ولا تابع ، هو قمة الخير والنبل الذى ينتمى لقيمه ومعانيه ملايين من أبناء هذا الوطن وشبابه .. وأن قمة الشر هى قلب الحقائق وتزييف الواقع وتحويل الأعداء إلى حلفاء ، واعتبار أن المستقبل لن يأتى إلا على طريقة الماضى ، أهل الشر حقا هم من يصادرون المستقبل ويحاصرونه ويسجنونه ، بحجة أن المنتصرين له والباحثين عنه هم أهل الشر.