قال ماتيو توالدو، خبير الشؤون الدولية في مجلس العلاقات الدولية الأوروبي، الذي يتخذ من لندن مقرا له، إن الأزمة الليبية، ومحاولات حكومة الوفاق الوطني لتعزيز سلطتها، تأتي بسبب المحاولات الخرقاء لبعض الدول الغربية للتدخل في الوضع الليبي، بإرسالها مثلًا قوات خاصة إلى ليبيا لدعم هذه المجموعة المسلحة أو تلك. هذا الخطأ اضطر أوروبا إلى إعادة النظر في سياساتها واستراتيجياتها بشأن مكافحة الإرهاب في ليبيا، وبالتالي، كان على المجموعة الدولية لدعم ليبيا، بعد الأخذ بالاعتبار الأخطاء التي ارتكبها الغرب سابقا، أن تحل عدة مسائل أساسية، من بينها الاعتراف الدولي بحكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج من أجل الإسراع في توطيد سلطتها. ولكن المشكلة الثانية تمثلت في التوصل إلى اتفاق مبدئي بشأن توريد الأسلحة والمعدات الحربية إلى ليبيا، بعد توقفها بقرار مجلس الأمن الدولي الصادر في شهر فبراير ٢٠١١ حول فرض حصار على توريد الأسلحة إلى هذا البلد. ولكن كيف ومتى وبأي آليات ولمن سيتم توريد السلاح؟! وماذا عن تواجد قوات خاصة غربية ومستشارين أجانب من عدة دول في مناطق ليبية مختلفة؟ وما هي تركيبة حكومة الوفاق، وماذا يعني إعادة السلطة إلى حكومة "إسلامية" وإصرار الغرب على دعمها؟ وما هو الموقف من الفريق خليفة حفتر؟، تساؤلات كثيرة تشير إلى أن الغرب لم يصلح أخطاءه كما يتصور البعض، بل يواصل ارتكاب الخطأ تلو الآخر من أجل التأكيد على صحة السيناريو القديم، أو التصور الساذج للولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية بضرورة تمكين القوى اليمينية الدينية المتطرفة من السلطة، أو على الأقل إشراكها في إدارة دول الشرق الأوسط. المتحدث الرسمي للقوات المسلحة الليبية، التابعة للبرلمان في طبرق، العقيد أحمد المسماري قال إن: "الجيش الليبي طالب منذ زمن في كافة المحافل الدولية برفع الحظر عن تصدير الأسلحة إلى بلاده لمحاربة الإرهاب، لكن لم يتجاوب أحد، ثم فوجئنا بقرار واشنطن وبعض الدول الأخرى في اجتماع فيينا منح السلاح لميليشيات ما يسمى بالحرس الوطني الموجودة في طرابلس". أما رئيس مجلس النواب الليبي في طبرق والمعترف به دوليا، عقيلة صالح، فقد أعلن بأن قرار المجلس الرئاسي الليبي، الذي تم تشكيله مؤخرا بموجب اتفاق الصخيرات، إنشاء "حرس رئاسي" منفصل عن الجيش، يُعَدُّ خرقا دستوريا، لأن الجيش الليبي هو جيش واحد بقيادة الفريق خليفة حفتر، وهو مكلف من الجسم الشرعي المعترف به دوليا. وحذر من أن "يؤدي الحرس الرئاسي إلى انشقاق في الجيش الليبي. والخطر هنا هو أن يسود انطباع بأن رئيس حكومة الوفاق الوطني فايز السراج لا يريد بناء الجيش الليبي كما يريد الشعب ومؤسساته الشرعية المعترف بها دوليا. والمعروف إلى الآن أن المجلس الرئاسي لم يؤد اليمين الدستورية أمام البرلمان الليبي بعد، ولم يحصل على الثقة من مجلس النواب حتى هذه اللحظة. ولم يؤد يمين الولاء للدستور وللوطن، ولم يدخل هذا الجسم الجديد في الكيان الدستوري للدولة. مثل هذا المشهد غير البعيد عن تأثيرات وضغوط الغرب، وبالذات الولاياتالمتحدة وفرنسا وبريطانيا، من شأنه أن يؤدي إلى اقتتال داخلي بين القبائل وبعضها البعض، وبين القوى الليبية المختلفة، بل وإلى تقسيم ليبيا إلى شرق وغرب وجنوب، وفي نهاية المطاف سينتقل مركز ثقل داعش والتنظيمات الإرهابية إلى ليبيا التي ستشكل خطرا حقيقيا أوسع على دول الجوار وشمال أفريقيا كله، وعلى جنوب أوروبا. هذه التحركات والسيناريوهات الغربية تثير الكثير من الشكوك، خاصة وأنها تترافق مع حملات إعلامية تُمَجِّد أي لقاءات وتصريحات أمريكية وأوروبية بشأن ليبيا، وتعطي انطباعا بأن الغرب يريد تسوية تلك الأزمة. لكن كل النتائج تشير إلى عكس ذلك. ومن جهة أخرى، تثير رغبة الغرب في استبعاد الفريق خليفة حفتر وقواته من المشهدين السياسي والميداني الكثير من الشكوك، لأن ذلك سيكون لصالح القوى الإسلامية والإخوان الذين يسيطرون على حكومة الوفاق بدعم أمريكي، أوروبي. ولذلك لم تكن مفاجأة أن يتجه الفريق خليفة حفتر نحو روسيا طالبا الدعم السياسي على الأقل في الوقت الراهن. وفقا للمعلومات المتوافرة، فقد نجح حفتر في فتح قنوات اتصال مع موسكو في الفترة الأخيرة. وهناك معلومات شحيحة نسبيا حول لقاء ممثليه مع مسؤولين روس في موسكو، حيث دار الحديث عن شكل من أشكال الدعم المتنوع، وعلى رأسه الدعم السياسي. وهذا لا ينفي طلب أنواع أخرى من الدعم. ومن المتوقع أن تستقبل موسكو مبعوثين آخرين من جانب حفتر لتطوير تلك الاتصالات الأولية. وبالتالي، لم تكن مصادفة أن يعلن المتحدث باسم القوات الليبية العقيد أحمد المسماري عن وجود "تطلعات للجيش الليبي مع روسيا، حيث قال "حتى الآن لا يوجد اتفاقيات محددة مع القيادة الروسية نستطيع الإعلان عنها حاليا، ولكن يمكن أن يكون ذلك في القريب العاجل، وأؤكد أن لدينا تطلعات مع القيادة الروسية والدور الروسي ودعمه للجيش الليبي وربما يكون هناك مباحثات ما بين القيادة الروسية والقائد الأعلى للقوات المسلحة وأنا لا أعلم عن تفاصيلها". من جهة أخرى، تشير بعض التقارير الروسية إلى أن مشكلة الإسلام السياسي عموما، ومشكلة الإخوان وبعض القوى اليمينية الدينية المتطرفة في ليبيا، أصبحت تتخذ طابعا ملحا بنتيجة إفساح الغرب مساحة كبيرة لها، وإصراره على تمكينها من الحكم أو مشاركتها فيه. وفي الوقت نفسه تتفاقم ليس ظاهرة الإرهاب، وإنما اتساع وتمدد داعش على الأرض، وخاصة بعد أن سيطر على مدينة سرت وساحلها، ما يشكل تهديدا لأوروبا، لأنه أصبح بإمكان الإرهابيين التحكم بتدفق المهاجرين عبر البحر إلى إيطاليا، وإرسال خلايا نائمة إلى دول الاتحاد الأوروبي. هذه التقارير تعلق الأمل على أن داعش والتنظيمات الإرهابية الأخرى لم تتمكن من الانتشار في المجتمع الليبي نفسه، ولم تجد التربة الخصبة، كما حدث في العراق وسوريا، بسبب عدم دعم السكان المحليين من جهة، وبسبب أن غالبية إرهابيي داعش هناك ليسوا ليبيين بل أتوا من دول أخرى. هذه الأسباب حالت دون قيامهم خلال فترة طويلة بعمليات هجومية واسعة في عمق البلاد، ما دفعهم على الأقل إلى الآن إلى تعزيز مواقعهم في سرت وضواحيها، بينما أعلنت تنظيمات إرهابية أخرى دولها الإسلامية في بعض المناطق مثل درنة. ولكن ازدياد نشاطهم أصبح ملاحظا في الفترة الأخيرة، بعد وصول "دماء شابة" من العراق وسوريا. هكذا يتشكل المشهدان السياسي والميداني في ليبيا بعد قرارات لقاء فيينا الذي قرر تخفيف حظر السلاح على ليبيا. ولكن أي ليبيا بالضبط؟! الصياغات تتعدد. فتارة يتم استخدام عبارة "تسليح القوات التابعة لحكومة الوفاق الوطني"، ما يثير الكثير من اللغط والتساؤلات والشكوك في نوايا الدول التي التقت في فيينا وقررت "تخفيف الحظر"، فعن أي جيش ليبي يدور الحديث؟ عن قوات الفريق خليفة حفتر، أم عن القوات التابعة لبرلمان طرابلس، أم عن قوات ما تحارب في غرب ليبيا وأخرى تحارب في سرت وثالثة تحارب في طبرق أو درنة أو مصراتة أو صبراتة أو الزنتان؟ أم هل يدور الحديث حول القوات التي تقوم حكومة الوفاق الوطني بتشكيلها لقطع الطريق على قوات حفتر من جهة، والحصول على شرعية وثقل سياسي وميداني من جهة أخرى، وذلك بهدف تنفيذ شروط الدول الأوروبية بإبعاد حفتر عن المشهدين السياسي والميداني؟!. في هذا الصدد تحديدا، وعقب قرارات اجتماع فيينا، أعلنت القوات الموالية لحكومة الوفاق الوطني في ليبيا مقتل ٧ من عناصرها واستعادة السيطرة على منطقة "أبو قرين" الاستراتيجية شرق طرابلس بعد معارك مع داعش. ثم أعلنت غرفة العمليات التي أنشأتها حكومة الوفاق وجعلت من مصراتة مقرا لها أن القوات الحكومية تقدمت بشكل سريع ووصلت إلى منطقة تبعد نحو ٥٠ كلم غرب مدينة سرت. وتقع "أبو قرين" في منطقة استراتيجية قرب الساحل عند الطريق الرئيسي الذي يربط الشرق الليبي بغربه، ومدينة مصراتة (٢٠٠ كلم شرق طرابلس) بمدينة سرت وبالجنوب الليبي أيضا. وتبعد أيضا حوالي ١٣٠ كلم غرب مدينة سرت (٤٥٠ كلم شرق طرابلس) الخاضعة لسيطرة داعش منذ يونيو ٢٠١٥، وعلى بعد نحو ١٠٠ كلم جنوب مدينة مصراتة (٢٠٠ كلم شرق طرابلس) وهي مركز القوات الموالية لحكومة الوفاق. الخطير هنا أن القوات العسكرية في الغرب الليبي تخضع لسلطة حكومة الوفاق الوطني، بينما يقود الفريق خليفة حفتر مدعوما من البرلمان المعترف به دوليا، قواته في الشرق الليبي. وبالتالي، فلا أحد يعرف إلى الآن ماذا تعني الدول الغربية ب "الجيش الليبي"، وعن أي جيش يدور الحديث. ولا أحد يعرف أيضا ماذا يعني الأوروبيون والأمريكيون ب "دعم حكومة الوفاق الوطني"، بينما هناك حكومتان أخريان، واحدة في طرابلس والثانية في طبرق. إضافة إلى حكومات مصغرة للتنظيمات المتطرفة والإرهابية والمجموعات المسلحة الكثيرة الأخرى في ليبيا. البعض يتخوف من وقوع ما سيصل إلى حكومة الوفاق من أسلحة في أيدي داعش، أو في أحسن الأحوال في أيدي مجموعات وقوى مختلفة المشارب والتوجهات والمصالح. وفي الوقت نفسه حرمان قوات حفتر من أي دعم سياسي أو ميداني لصالح فكرة تشكيل جيش تابع لحكومة الوفاق الوطني، لا أحد يعرف بالضبط شروط تشكيله ومن من سيتكون بالضبط، وما هي القوى التي ستشارك فيه، وأي مهام سيتم تكليفه بها!! ومع ذلك فقد تشكَّل "جيش حكومة الوفاق" في لمح البصر، وعقب يوم واحد من قرارات فيينا، بل وأعلن عن قتلى وجرحى في صفوفه، وعن تقدم ميداني ل "قواته" لعشرات الكيلومترات!!.