ربما لم يحظ مصطلح خلال العقود الثلاث السابقة بما حظى به هذا المصطلح الإسلام السياسي، والذي صكه المستشار محمد سعيد العشماوي، الكاتب والمفكر والقاضي، الذي أصدر كتابًا في العام 1987 حمل هذا الاسم، في إطار مشروعه الفكري لمناهضة التطرف والإرهاب.. هذا المشروع الفكري الذي نجحت جماعات الإسلام السياسي في حجب أنواره وحصاره، كما نجحت قبله في حجب أنوار كل المفكرين التقدميين، سواء من خرجوا من الأزهر أو من الجامعات المصرية والغربية من أمثال الشيخ محمد عبده والكواكبي والأفغاني والطهطاوي وقاسم أمين أوغيرهم، لكن ربما لم يتعرض أحد لما تعرّضت له كتيبة المقاتلين ضد الظلامية من كتاب التنوير ومنهم هذا الرجل، الذي لم تحظ أطروحاته العاقلة والنقدية العلمية بما تستأهله من اهتمام، ربما فقط لأنه كان مستقلًا عن الدولة مُصرًا على أن يحيا بضمير القاضي والمفكر المتجرد المستنير. ننوه في تلك المساحة المحدودة بالراحل العظيم الذي رحل عنّا في السابع من شهر نوفمبر من عام 2013 ، وقد ناهز الثمانين من عمره بعد حياة حافلة بالعمل والجهاد ، سواء في سلك القضاء الذي تقلّد فيه أرفع المناصب قاضيًا ورئيسًا لمحكمة ا ستئناف القاهرة ثم أمن الدولة العليا ، أو مفكرًا عبر رحلته في مقاومة تلك الجماعات ، حيث صادفت حياته هذا التحالف المشؤ وم بين تلك الجماعات والدولة ، بدأ الرجل نضاله الفكري في العام 1979، وكان مستقلًا عن النظام السياسي ينتقده كما ينتقد تلك الجماعات ، فلم يكن معولًا بيد السلطة؛ بل كان ضميرًا يخاطب الجميع ويعرف عيوب الدولة العربية الحديثةن خاصة الفساد والا ستبداد. أصدر الرجل أكثر من 35 كتابًا عن الظاهرة مشتبكًا مع القضايا التي تمثل قوام أفكار تلك الجماعات، بمنطق هادئ يليق بقاض ومتبحر في قراءة التراث الإسلامي والفقه على وجه الخصوص، لكن كتابه الإسلام السياسي يبقى أهم كتبه، فقد تعرّض فيه إلى مجموعة من القضايا الجدلية، عارضًا فيه لوجهة نظر مستنيرة وتقدمية صدع بها في وقت كانت المؤسسة الدينية تداهن جماعات الإسلام السياسي. ناقش ما يسمى بالحاكمية كمفهوم، مؤكدًا أن حاكمية الله فكرة غير صحيحة، فقد خلق الله الخلق ومنحهم الحكم والمسؤولية فعلًا وواقعًا، يباشرونها لونًا من ألوان الاستخلاف والتكليف، الذي يرتبط بتحقيق مراد الله في كونه من عدل وحرية وشورى وكل القيم الإنسانية التي هي من عند الله في النهاية. فض الاشتباك حول آيات الكتاب العظيم القرآن، والتي يتوسل بها المتطرفون في تبرير العنف والإرهاب والقتل، مؤكدًا أهمية؛ بل وضرورة تفسير آيات القران الكريم وفقًا للسياق التاريخي والعلم التام بأسباب النزول والأخذ بتاريخية النصوص، وإلّا فنحن أمام نصوص إذا تخطت هذه العتبة فهي دعوة أبدية إلى حرب ضروس مع العالم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فالقيمة المركزية في الإسلام هي العدل والرحمة لذا فالعدالة في الإسلام تسبق العقوبة والعدل يسبق الحد، مؤكدًا أن الإسلام في تاريخنا، إسلام حضارة وإسلام بداوة ظلًا يتشاركا مسيرة التاريخ ويتبادلا الظهور والحديث باسم الإسلام، منصفًا الحضارة الغربية العالمية بأنها ليست شرًا كلها؛ بل تتضمن قيما أخلاقية يمكن أن نعتبرها قيما روحية. العشماوي ينبه قبل ثلاثة عقود أن أفكار تلك الجماعات في حال انتشارها وبروزها عبر جماعات كبيرة ستقود العالم إلى حرب كونية، وهو ما تفعله داعش اليوم بالضبط حين تتوعد العالم كله وتقسمه إلى دار حرب ودار إسلام. امتلك الرجل الشجاعة ليصدع برؤية تتعلق بما يسمى بالبنوك الإسلامية، مؤكدا أنها لا تختلف عن غيرها من البنوك سوى في الشعارات، بينما هي في النهاية جزء من اقتصاد العالم المرتبط بشبكة واحدة. حذر من أن دخول السياسة إلى العقيدة يحولها إلى أيديولوجية، وفارق كبير بين الإسلام كدين والأيديولوجيا الإسلامية، فالسياسة عمل بشري يتلبث بحق وبباطل، بينما الدين رسالة حق لا ينبغي أن تنزل إلى هذا الدرك، كلمات ربما لم نعرف معناها إلّا بمصاديق من واقع عاشه الرجل وأدركه قبل أن يرحل قبل ثلاثة أعوام. يلفت الرجل إلى ملمح هام وهو أن الإسلام دين رحمة وخلق بالأساس، بينما اليهودية دين تشريع بالأساس لذا جاءت كثير من الحدود في الإسلام نسجًا على منوال التوراة، حيث ضم القران أكثر من 6000 أيه ما تعلّق منها بالتشريع والمعاملات لم يتجاوز 700 أية ما يقرب من عشرة بالمئة. طوف الرجل بالتاريخ والتجربة الإسلامية، نازعًا عنها حجاب القداسة، مؤكدًا بشرية الصحابة التابعين، مفرقًا بين مرحلة النبوة التي هي حكم الله الذي يستضىء بالوحي على مدار الساعة، وما تلاه من حكم البشر الذي خضع لتطور الأحوال ليتطور إلى صراع طبقي وقبلي في النهاية وسيطرة القبيلة، ثم الوجه الإمبراطوري التوسعي الذي كان مزاج تلك المرحلة، حتى انتهت الأمور مع جماعات الإسلام السياسي إلى اختزال الإسلام في السياسة، واختزال الشريعة في الفقه وخلط العقل الإسلامي بين مقام النبوة ومقام الخلافة. الكتاب ككل كتب الرجل شحنة عقلية مكثفة، تستثير العقل الإسلامي وتبعث روح المسلم وتدفعه إلى تجديد الفكر الديني، ووضع نطريات واضحة ومحددة في السياسة والاقتصاد.. لكن من أهم القضايا التي تعرّض لها الكتاب فيما يخص التجديد الديني، كانت نقاط، لم يشتبك معها أحد من مجامعنا الفقهية أو مراجعنا العلمية، رغم خطورتها ومركزيتها في وعي كل حركات الإسلام السياسي، والتي منها تحديد معاني القرآن الكريم تحديدًا واضحًا جامعًا، مانعًا من التداخل أو التأويل المتعسف، تحديد منهج لتفسير القرآن يضع أسباب النزول في مكانها اللائق فيه، وضع نظرية للنسخ في القرآن، وضع نظرية للأحكام التي يمكن للمجتمع الإجتهاد فى تعليقها ضاربا مثلا بقضية الرق والجوارى ، وضع معيار لتقويم الحديث النبوى على أساس المتن الى جانب الإهتمام بالسند وعدم الاقتصار عليه. الكتاب كأفكار الرجل نبؤة للمستقبل، تحتاج إلى من يتبناها بالنشر والبحث والحوار في وقت نحن أحوج من نكون فيه إلى ذلك، في إطار مواجهة فكرية تواجه الظلامية بالتنوير، وليس أفضل من تلك الشحنات من العقلنة سبيلًا للاشتباك مع الظاهرة.