داعش أقرب إلينا مما ينبغي، تسيطر على المدن العربية القريبة، تربض بين صخور سيناء حيث يوجد جزء وثيق الصلة بها، وتتخفى وسط زحام الشوارع المصرية، لكننا لا نراهم، لا يتحرك مقاتلو داعش على الأرض بشكل عشوائي، خاصة في أوروبا، فالعيون مفتوحة واجهزة الرصد لا تترك نأمة دون ان تتبعها، ورغم ذلك فقد نجحوا في اختراق دفاعاتها كما فعلوا بنا، ومن موقعها البدائي في مدينة "الرقة" استطاعت داعش أن تنفذ عمليتين معقدتين في شوارع باريس وبروكسل، ومازالت تستقطب الانصار والمال والسلاح، دون أن تستطيع اجهزة المخابرات العالمية منعها أو اختراقها. يشتكي الجميع أنهم لا يعرفون شيئا فعليا عن داعش، لا مواقعها ولا تحركانها، وكل اسراب الطائرات التي تغير عليهم تفعل ذلك بشكل عشوائي، لا توجه لها اصابة قاصمة، لكنها تصيب المواطنين الأبرياء بلفحات قاتلة من نيرانها الصديقة، انهم يحاربون عدوا يجهلونه، اضعف منهم، ولكنه أكثر ذكاء، نسخة جديدة ومتطورة عن مقاتلي القاعدة، لم يعد من الممكن اصطيادهم عن طريق موجات الهواتف النقالة كما حدث مع اسامة بن لادن، مقاتلو داعش هم جيل آخر مختلف، جاء بعضهم من بلاد متقدمة، يتعاملون مع التكنولوجيا بطريقة اكثر تطورا، موجودون في قلب العالم ولكن العالم لا يستطيع الوصول إلى قلبهم، سرهم مصان وسط تضاريس الحطام، لم تتمكن الأجهزة المتلصصة من زرع عملاء داخلهم، رغم أن الخونة لا ينقطعون. هناك شفرة خاصة بداعش لم يتم كسرها حتى الآن، تصل إلى كل مكان وتنقل الاوامر والخطط للاتباع دون أن يستطيع أحد الامساك بها او اعتراضها، وقد بذلت جهودا كبيرة لمحاولة كشف هذه الشفرة، ونشرت سلسلة من المقالات وعددا من المقابلات مع ادق خبراء الكومبيوتر لمعرفة طبيعة هذه الشفرة، وساهم روكميني كلاماشي من جريدة التايم بكشف جزء كبير من خبايا هذا الموضوع. ففي كل تحركات داعش يتم استخدام شفرة تعتمد على جزء من برامج الكومبيوتر المتاحة تدعى "سرداب الحقيقة TrueCrypt ، وهي ليست ترجمة دقيقة ولكنه اجتهاد من عندي، فقد اظهرت التحقيقات أن كل الذين ارسلتهم داعش إلى فرنسا وبلجيكا تم اعطائهم "فلاش مموري" عليها الشفرة التي يتصلون بواسطتها، ولكنها مزودة ايضا ببرنامج اضافي يقوم بمحو كل المعلومات التي يمكن ان توجد على الجهاز، وبذلك لا يمكن لاحد أن يتبع بقايا هذه الشفرة، رغم أن البرامج التي بنيت عليها الشفرة موجودة ومتاحة ، تستخدمها الشركات الكبرى مثل "آبل ماكنتوش" و"سوفت وير" لحماية ملفات التشغيل وبعض الاقراص ذات الطبيعة الخاصة، وقد اضطرت شركة "أبل" للسماح للسلطات الامريكية بفك هذه الشفرة بعد أن وقع الحادث الارهابي في "سان برنانردينو" عندما اطلق اثنان من المسلمين من اصل باكستاني النار على بعض المشاركين في سباق للجري، واعتبر الحادث عملا ارهابيا، ومن خلال فك شفرة ملفات الحماية تمكنت المباحث الفيدرالية من تتبع الجناة وقتلهم. ولكن كيف حدث التحول في هذه البرامج المتاحة؟ كيف خرجت شفرة "سرداب الحقيقة" عن الدور الذي انشأت من اجله لتستخدم كشفرة تحمي الخارجين عن القانون؟ يجزم الخبراء ان هذا التحول في النظام قد حدث في عام 2004 ليصبح واحدا من اقوى برامج التشفير الذي لا يمكن اختراقه دون معرفة كلمة السر، حتى ادوارد سنودن نفسه لا يستطيع الوصول إلى الملفات الموجودة بداخله، وقد حدث هذا التطور بواسطة واحد من عباقرة برمجة الكومبيوتر هو "بول دي روا"، وهو ايضا عبقري في ممارسة الأجرام، رجل اعمال فرنسي كان يقيم في الفلبين ويدير منها أكبر شبكة لتجارة المخدرات والسلاح حول العالم، وقد استطاع أن يحول هذه البرامج إلى شفرة خاصة يخاطب من خلالها اعوانه المنتشرين في هونج كونج وجنوب افريقيا والبرازيل واعضاء "كارتل" المخدرات في كولومبيا، ورغم هذه المهارة والنفوذ فقد وقع في قبضة رجال الأمن، تم اصطياده وهو في خضم تنفيذ صفقة هيروين ضخمة بعد او وشى به احد اتباعه، كانت عملية معقدة تعاونت فيها جنوب افريقيا مع ليبريا في 2012، وقد وضع "دو روا" في السجن تحت حماية قانون الشهود الأمريكي، وهو قانون يخفف الحكم عليه إذا تعاون مع السلطات، وحتى الآن لا أحد يعرف طبيعة هذا التعاون، ولكن يقال أنه يستخدم كشاهد للإيقاع بزملائه السابقين، وقد تعهد بأن يفك جدار الشفرة التي بناها، وقد اوقع حتى الآن بواحد من اشهر القتلة المحترفين في امريكا، وهو عسكري سابق يدعى جوزيف هنتر، وتأمل امريكا أن تستطيع من خلال "دو روا" أيضا اختراق "كارتل الهرويين" الشهير في كولومبيا. استطاع دي روا استخدام هذه البرامج المتاحة وأن يبني عليها شفرة مختلفة ومعقدة اطلق عليها "شفرة للجماهير" Encryption for the Masses (E4M) وقد اسس لهذا الغرض شركة خاصة للعمل على تطوير البرامج ، وقامت الشركة بذلك بطريقة غامضة وغير مفهومة، ويقول ماتيو جرين المتخصص في علوم الكومبيوتر: "إن اصل شفرة السرداب غامض جدا، لقد كتبتها جماعة مجهولة، يمكن أن يكون بول دي روا وجماعته، ويمكن أن تكون هناك مجموعة اخرى لا نعلم عنها شيئا". في مايو 2014 اعلن بعض الذين يعملون على تطوير برامج التشفير هذه عن انسحابهم من هذا العمل، لن يدعموا او يطورا هذه البرامج بعد ذلك، ربما شعروا بالملل، أو لم يعد هناك عائد تجاري لما يقومون به، ولكن الأرجح أنهم قد علموا بنبأ القبض على دي روا ومدى تعاونه مع امريكا وكيف تم القبض على الذين كانت تربطهم به صلات قديمة، ويخشون ان يفشي سرهم ايضا ويجرهم معه، ويقال ان البعض منهم من ذوي الأصول الباكستانية قد هربوا إلى داعش ليحتموا بها. الموقف من شفرة داعش، يعزز من حاجة أمريكا إلى "باب خلفي"، ثغرة تنفذ منها الاجهزة الحكومية للدخول بصورة غير قانونية لفك الشفرة الموجودة في اي جهاز، ويتم ذلك عن طريق وضع هذا الباب الجانبي عند تصميم البرنامج من بداية الأمر، بحيث تتمكن السلطات من استخدامه لكشف اي عمل أجرامي أو نشاط مخابراتي ، ورغم ذلك فلم يثبت هذا الباب الخلفي جدواه، فالبرامج مفتوحة المصدر، والذين يقومون باستخدام عملية التشفير مثل اتباع داعش غامضون ويعيشون خارج أمريكا، ولا يوجد لديهم بالطبع أي حافز للتعاون معها، ولا يكنون لها أي ود، وشركة "دو روا" التي طورت نظام التشفير لم تكن شركة تجارية عادية، ولكن منظمة اجرامية تقوم بالإتجار في المخدرات ، لذلك فإن امل السلطات الوحيد هو القبض على واحد من اعضاء داعش وفي حوزته برنامج الشفرة ومعها كلمة السر، هذه هي فرصتها الوحيدة للدخول إلى شفرة داعش السرية. شفرة داعش هي أيضا واحدة من أخطر الأسلحة الموجهة ضدنا، فهي تستخدم كصلة وصل بين الجماعات الموجودة في سوريا والعراق مع الجامعات الكامنة وسط صخور سيناء، ومن خلالها يتم نقل الأوامر ورسم الخطط ونصب الفخاخ التي يقع فيها الجنود المصريين، وهي اتستخدم أيضا في الربط بين هؤلاء وبين عملاؤهم الموجودين داخل الوادي المزدحم، هذه الشفرة الجهنمية توجه الجميع، وعلى المسئولين على الأمن التعاون مع بقية الدول المتقدمة في هذا المجال من أجل كسرها وكشفها، فمن العبث ان تشغل السلطات نفسها بمطاردة النشطاء والمدونين الذين لا يفعلون شيئا غير ابداء الرأي بينما ينشر سرطان الارهاب والتخريب أذرعته إلى كل مكان.