غالبا أنت لا تعرف، وربما لم تسمع مرة واحدة باسم هذا الشاب المبدع الموهوب «هشام جبر»، إذ لا يوجد، كما ترى، متسع لأمثاله وسط زحام البؤس والقبح والجهالة والضوضاء وشلالات البذاءة وشتى أنواع الملوثات السمعية والبصرية والعقلية التى تغمر حياتنا حاليا وتكاد تطمر وتدفن أرواحنا تحت ركامها، لكنى أستأذنك إرجاء تعريفك بهشام و«تأثيره» المبهج والمفرح والداعى إلى الفخر إلى ما بعد هذه الحكاية: قبل 17 سنة وتحديدا عام 1993 نشرت مجلة «عِلم» الأمريكية «science magazine» بحثا أجراه فريق من علماء النفس بجامعة كاليفورنيا على عينة من التلاميذ انتهى إلى أن الفتية الصغار الذين تعرضوا لسماع الموسيقى الكلاسيكية لمدة محدودة قبل دخول الامتحانات حققوا نتائج أفضل من زملائهم الذين لم يسمعوا شيئا منها، ورغم أن هذا البحث لم يكن الأول الذى يثبت التأثير الإيجابى للموسيقى الراقية على البشر (وكائنات حية أخرى) نفسيا وبدنيا وعلى الأداء العقلى كذلك، وقد أتت نتائجه عموما متطابقة مع ملاحظات واستنتاجات توصلت إليها فرق بحث عديدة أنجزت منذ مطلع القرن الماضى مئات الاختبارات والأبحاث العلمية فى هذا المجال، إلا أن الجديد الذى أتى به فريق جامعة كاليفورنيا هو أن أثر النغم الراقى فى النفس والعقل ليس بدرجة واحدة، ولكنه متفاوت فى القوة وأن الموسيقى الكلاسيكية بالذات هى الأسمى، بل لقد ميزت نتائج بحثهم مبدعا بعينه من مبدعى ذلك النوع الموسيقى وأظهرت أن لمقطوعاته وأعماله طاقة أكبر على تحفيز القدرات العقلية للتلامذة، هذا المبدع هو النمساوى العبقرى فولفجانج أماديوس موتسارت (1756- 1791) الذى صارت موسيقاه من بعد نشر البحث المذكور وكأنها وصفة سحرية للذكاء والنباهة، حتى إن أعدادا متزايدة من المدارس الأمريكية اعتمدتها كوسيلة مضمونة لرفع نتائج تلاميذها، كما شاع فى الأوساط العلمية والتربوية مصطلح «تأثير موتسارت» Mozart effect للدلالة على فعل الموسيقى الإيجابى فى الأذهان، فضلا عن الأرواح. غير أن التشكيك فى مصداقية هذا المصطلح أتى مؤخرا (الأسبوع الماضى) من عاصمة موطن موتسارت نفسه عندما أعلن باحثون فى كلية علم النفس بجامعة «فيينا» أنه لا دليل علميا موثوقا يؤكد أن إنتاج مواطنهم الفذ يتميز أو يزيد فى تأثيره عن أعمال الموسيقيين الكلاسيكيين العظام الآخرين، وقال البروفيسور جاكوب بيتشينج المشرف على البحث الذى أجرته الكلية فى هذا الموضوع إن «الذين استمعوا لمقطوعات موسيقية من أعمال موتسارت أو باخ أو هايدن وغيرهم تمتعوا بأحاسيس وتأثيرات (إيجابية) متقاربة ومتشابهة جدا بما ينفى أى أساس واقعى لاعتبار موسيقى واحد منهم بالذات تستأثر بوضع خاص.. باختصار ليس صحيحا أن التأثير لموتسارت وحده، التأثير للموسيقى (الراقية) فحسب» مهما كان اسم مبدعها. انتهت الحكاية.. وأعود إلى هشام جبر ذلك الشاب اللامع الذى أدين له بتجربة استماع موسيقى رائعة حملتنى قبل أسبوعين إلى آفاق بعيدة من المتعة الروحية والعقلية، كنت فى أشد الحاجة إليها لكى أرمم بعضا من مساحات فى النفس تصحرت وتشققت تحت وطأة الغم والهم والقذارة المتفشية حولنا، فعلى مدى أكثر قليلا من ساعتين (فى قاعة بديعة من قاعات قصر الأمير محمد على بالمنيل) لم يتوقف هشام لحظة واحدة عن إثارة إعجابى ودهشتى، بينما هو يقود باقتدار يدعو للفخر فرقة «مجموعة القاهرة» لموسيقى الحجرة (السيمفونية) التى أسسها من أربع سنوات، وظل يحلق ويصعد بالحضور المأخوذين بمتعة الآداء من ذروة بهجة إلى ذروة أخرى أعلى وأجمل وهو يتنقل بهم بين فقرات الحفل الثلاث التى اختارها ورتبها بحذق ومهارة لتعميق الإحساس بالسمو المضطرد وارتقاء الأداء، فقد بدأ بافتتاحية أوبرا «السلم الحريرى» للإيطالى جواتشينو روسينى (1792- 1868)، ثم ثنى بتحفة من تحف موتسارت، كونشيرتو البيانو والأوركسترا رقم 20 الذى تمتعنا فيه بروعة أداء عازفة البيانو المصرية زائعة الصيت أميرة فؤاد. وأخيرا ختم هشام وفريقه بالحركات الأربع المذهلة التى تتألف منها سيمفونية جوزيف هايدن (1732- 1809) الأخيرة رقم 104، ليتركنا بعدها، وبعد أن تمزقت أيادينا من التصفيق مستلَبين تماما وواقعين كليا تحت التأثير السحرى للجمال والإبداع حينما يتجلى نغما وكأنه آتٍ من الجنة. يبدو أنه رغم كل المنغصات فما زال فى هذه الدنيا ما يستحق الحياة، وما زال فى هذا الوطن ما يستحق الفخر.. (هذه السطور كتبتها ونشرتها قبل ثلاثة أعوام بالتمام والكمال، وقد تذكرتها واستدعيتها عندما رأيت أول من أمس عشرات من زملاء المايسترو هشام يتألقون وسط جيش جرار من المبدعين الرائعين صناع الترقى والجمال.. كانوا جميعا ينتثرون يغنون للوطن ويعزفون على الرصيف أمام مقر وزارة الثقافة، حيث يعتصمون من أيام احتجاجا على قيام جماعة الشر السرية صديقة القبح وراعية الجهالة، باستجلاب «مقاول هدد» من ظلام المجهول وكلفته بالعمل بسرعة لحرمان المصريين من حقهم الطبيعى فى التثقف والاستزادة من ينابيع الروعة، وتهديم وسحق مرافق إنتاج نور العقل وغذاء الروح).