هو رفيق طريق قديم يعلم كل من يلتقيه الود. تعرفت عليه منذ أكثر من عشر سنوات خلال تنقلاتى بين المركز والمدينة، أسمر الوجه، ممصوص العود، يرتدى جلاليب مفتوحة الصدر دائمًا، تبدو من تحتها ملابس الصيف الداخلية الرقيقة صيفًا، وأردية التثقيل فى الشتاء، المهم أن لا يلتئم طرفا صدر الجلباب على صدره أبدا. جلابيبه فى الغالب كانت بُنيّة ورمادية بدرجاتهما، أفتح أو أغمق قليلًا أو كثيرا من لون بشرته بحيث تشعر أنك فى مقابل كل واحد، ملابسه جزء منه وهو جزء من ملابسه. مهمل اللحية غالبًا وشعره الأبيض مهوش دائمًا نتيجة تعرضه لهواء الشباك المجاور له فى أثناء قيادته. هو من النوع الذى يألفك ويألف لك كأنه معرفة العمر المديد رغم أن لقاءكما يمكن أن يكون قد بدأ من دقائق أو من ثوانٍ. حكاء جيد علمته الثرثرة المتواصلة مع الركاب العابرين على الطرقات كيف يجيد التقاط المفارقة بذكاء والقبض على التناقض بحنكة تجعلك مندهشًا فى الغالب. كان هزليًّا يجيد استدراج البسمة والضحكة والقهقهة من شفتى الجميع حتى من لم يتعود منهم الضحك من قلبه، وهذا النوع الأخير بالذات كان يعتبر بالنسبة إليه تحديًّا جديرًا بشحذ مواهبه. أيام كثيرة خلال الأسبوع كنت أصادفه فى طريقى ذهابًا وإيابًا، وأحيانا كانت تمر أيام دون أن ألتقيه، لكنه فى كل مرة يلتقى فيها أحدا يبدو وكأنه لم يفارقه من أصله، وتظل ذكرى آخر لقاء بينهما مادة خصبة لالتقاط الخيوط منها واستئناف الحديث. ذات مرة قرر صديقى أن يحكى لى عن العادات المضحكة لسائقى الأرياف. وسيارات الأرياف التى تعمل على خطوطها معظمها من سيارات النقل الصغيرة ذات الصندوق الخلفى، وهو ما يجعلك كراكب من ذوى التطلعات الآدمية تفضل المقعد المجاور للسائق ولو دفعت فيه أجرتين بدلًا من أجرة واحدة. رغم أن هذا الكرسى لا يمكن أن يتسع لأكثر من راكب واحد، لكن العادة أن يحشر فوقه راكبين، ويظل المقعد الأمامى مفضلًا ومحلًا لنزاع بعض الركاب أحيانًا، فهو بكل المقاييس أفضل من حشر الصندوق الخلفى فى زحمة الأنفاس والروائح والنظرات والوجوه المحملقة والركب المتضاربة والأقدام الهارسة. وهذه التطلعات الآدمية من قبل الركاب هى ما يمكن أن تجعلهم عرضة للتقاطع مع تطلعات أخرى، بعضها عاطفى وبعضها طبقى، من قبل السائقين. وهذا هو ما حكاه صديقى السائق. يقول إنه سواء كان السائق مدعى أخلاق أو مدعى بوظان، وكلاهما قد يعرض عليك ادعاءاته لو جلست بجانبه (هذه الملاحظة الأخيرة من عندى، ولم تأت على لسان صديقى)، فلا يمكن أن تخرج تفضيلاته لمن يصطفى من الركاب المحظوظين للمقعد الأمامى عن هذا الترتيب: امرأة جميلة يختلس من وجهها حزمة من النظرات المريحة خلال الطريق. امرأة منقبة يختلس بخياله حولها حزمة من النظرات المريحة خلال الطريق. ولا أكثر من ذلك كما قد يتبادر لذهن الخبثاء ولا يمكن عادة أن يكون هناك شىء للواقع أو للخيال فوق ذلك. رجل يوحى مظهره بأنه عالى المقام، وهؤلاء ندرة لأن معظمهم يمتلكون سيارات خاصة. وبعد هذه الأصناف الأربعة السابقة يأتى كل الناس، أقصد بهم الناس العاديين الذين لا يميزهم شىء عاطفيا أو طبقيا أو من كل الزوايا. وهم لذلك ليسوا مرشحين مرحبًا بهم عند الجلوس فى هذا المقعد الأمامى المهم. بالطبع كنت مندهشًا قليلًا من حديث صديقى السائق الذى يتحدث فى كل شىء ويعرف الكثير من الأشياء باستفاضة. وقد تندهشون أنتم أيضا وتعتبرون حديثه خيالًا فى خيال، غير أن الحقيقة التى أعرفها أنه ليس خيالًا. لكم أن تعتبروه حديثًا تافهًا، فهذا صحيح، لكنه ليس حديثًا خياليًّا. المهم أننى لا تهمنى الأحاديث وتفاهتها وخياليتها بأكثر ما يهمنى صديقى الذى تذكرته اليوم، وتذكرت أننى لم أعد أعرف اليوم أراضيه، ولا هو بالتأكيد يعرفها (أقصد أراضى أنا). وقد تكررت رحلتى على الخط الذى يعمل عليه عقب غيابى النهائى عنه دون أن أتذكره أو أسأل عنه، ولا بد أنه هو كذلك لم يعد يتذكرنى أو يسأل عنى. بل وفرصتى أنا فى تذكره أكبر بكثير من أن يتذكرنى هو، فلا بد أنه صادف ويصادف عشرات مثلى كل يوم، ولا بد أن ثرثرته معى تتكرر مع كل من يقابلهم على الخط المزدحم الواصل بين المركز والمدينة. نسيت أن أقول إن صديقى السائق الذى عرفته منذ أكثر من عشر سنوات كان عجوزًا وقتها، ومن الممكن جدا أن يكون اليوم فى رحمة الله. لكننى اليوم وأنا أتذكر أحاديثه بتفاصيل كثيرة منها اقتنعت أننى لم أنسه خلال السنوات الماضية، لكنه كان كامنًا فى ركن بعيد ومدهش من ذاكرتى، وأننى كنت أحاول بعض الأحيان أن أقلد فى حديثى طريقته الممتعة الحميمة فى الحكى، وتقريبا دون انتباه منى لذلك. أيضا وحتى هذه اللحظة، ورغم أنه قد يكون اختفى نهائيًّا من الطريق الذى اعتاد القيادة والعمل فيه إلا أننى لا أتصور أنه يمكن أن يوجد فى مكان آخر من العالم إلا داخل هذا الشريط الأسفلتى الضيق الممتد، يركن ذراعه فوق الشباك ويختلس النظرات من وجه راكب المقعد الأمامى المفضل، ويثرثر، ويضحك، ويغرق فى الثرثرة والضحك. من «بورتريهات الفيوم»