مازال ريحان ثورة 25 يناير، يفوح بعطر دمائها الطاهرة الذكية، ويغمرنا يقينًا بالنصر وإن طال الزمن وتعسر المخاض، هكذا حال وشعور كل من شارك فيها و« ضحى من أجل الحرية والكرامة الإنسانية» فى الذكرى الخامسة للثورة ، مدعومين برسائل الفخر والثبات على المبادئ، التى يمررها على فترات أيقونتها ورمزها الأول الدكتور محمد البرادعى، والتى دائمًا ما يحرض خلالها على الأمل «ثقوا أن الثورة ستنتصر لأنكم المستقبل ولأن لا قوة فوق قوة الحق». البرادعى «صنايعى الأمل».. ما كان لذكرى يناير أن تمر إلا وتحضر تحية الذكر للرجل الذى نبش قبور الاستبداد والديكتاتورية، ليفسح للنور طريقًا نحو المستقبل حتى تنبت بذوره بالخير.. جرعة الثقة التى بثها البرادعى بأن الأمل مازال حيًا وإنه حيًا فى الشباب، حعلتهم يلتفوا حوله وبؤمنوا بفكرته فى التغيير، بعدما رأوا فيه منقذهم الوحيد القادر على انتشالهم من المجهول، وثقوا فيه واستقوى بهم فى مواجهة الفرعون، واجتمعت حوله كل قوى المعارضة الرافضة للتوريث والمتمردة على نظام مبارك القمعى، ليتم تشكيل الجمعية الوطنية للتغيير، وتدب الحياة فى ربوع مصر، وتتحرك المياه الراكدة منذ عقود طويلة من الفساد شابها الثبات والخمول والضياع. دق البرادعى المسمار الأول فى نعش مبارك، وقلب كل موازين القوى وحسابات مخخط التوريث، واستمر التصعيد وصولًا إلى لحظة الانفجار وكسر حاجز الخوف25 يناير 2011، وخلال تلك الفترة لم يسلم الرجل صاحب نوبل للسلام، والمكرم بقلادة النيل أرفع وسام مصرى، من حملات التشويه الممنهجة ضده التى نالت من شخصة وأسرته، ودينه وعلاقته بربه، ووطنيته، واتهامه كذبًا بالتسبب فى الاحتلال الأمريكي للعراق، رغم أنه قدم خلال تقريره أمام مجلس الأمن ما يؤكد تمامًا استحالة وجود أسلحة نووية بالعراق. استمر التشويش وتجاوز الرجل كل هذا دون أن أى تعليق أو رد يذكر، محددًا هدفه ومعركته فى البحث عن الإنسان المهدرة أبسط حقوقه رافعًا شعار "الإنسان أولًا"، ليجسد صورة "الفارس النبيل" فى أذهان الشباب، والتى دعمتها اللقطة الأشهر فى 28 يناير، حينما تقدم فيها البرادعى صفوف المتظاهرين على كوبرى قصر النيل مواجهًا لمدرعات «داخلية العادلى» ومدافع الماء موجه فى صدره. الأمور لم تمر كما تمنى البرادعى، رغم تأكيده مرارًا على أن «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية» هى معركة النفس الطويل، انسحب من أول انتخابات رئاسية بعد الثورة واصفًا إياها ب«المسرحية الهزلية» فى ظل حكم المجلس العسكرى، والخلاف مع الإخوان الذين تكالبوا على الانفراد بالسلطة، حتى جلس مرسى على كرسى الرئاسة وازدادت الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية تدهورًا، ليقود جبهة المعارضة ضد فاشية الجماعة الدينية التى كفرت الجميع فى خصومتها، ويتم الإطاحة مرسى وأهله وعشيرته من على عرش مصر. يدخل البرادعى لأول مرة كممثل للثورة فى قصر الرئاسة، بعد توليه منصب نائب رئيس الجمهورية للشؤون الخارجية، وينجز دورًا مهمًا فى هذا الملف ليثبت للعالم أن 30 يونيو ثورة شعبية وليست انقلاب. أوضاع البلاد تتأزم بعد اعتصام الإخوان فى ميدان رابعة العدوية، وتعثر محاولات التفاوض لإنهاء الاعتصام والاندماج فى الحياة السياسية مجددًا.. البرادعى كعادته يتصدر المشهد ويسعى من خلال إيمانه بالحوار والقانون كسبل لحل الأزمات للرأب الصدع، لكنه يخسر رصيد شعبى كبير كان قد اكتسبه فى 30 يونيو، فى ظل «هجوم شديد وغير مبرر» - على حد وصفه - من أجهزة الإعلام الحكومية التى مارست نفس أسلوب التشويه القديم ضده وخاضت من جديد فى حياته الشخصية ودينه ووطنيته، وصولا لفض رابعة، ليقرر الرجل تقديم استقالته رسميًا اعتراضًا على عنف الفض، مؤكدًا أن هذا العنف لن يستفيد منه سوى الجماعات «الأشد تطرفًا»٫ استقالة البرادعى كانت بمثابة الصدمة، لكل من اقتنع به وآمن بفكرته، وبمثابة تشتيت للجمع، فمنهم من احترم قراره ومنهم من هاجمه بضراوة وخونه، وبينهم من اكتفى بالصمت، لكن رحيله للخارج كان الأشد قسوة على الجميع وخصوصًا الشباب، الذين رأوا فى ذلك التوقيت تخلى عنهم، وتركهم فى مواجهة النيران والصعاب وحدهم، وزاد هذا الشعور مع دخول الحريات فى نفق مظلم، تكاد تكون وصلت فيه للانعدام، بخلاف العودة لتهميش دورهم. وإذا كان قرار مغادرته مصر وضعه فى مرمى الاختلاف من جانب الشباب الذى آمن به، وصمته زاد الاختلاف عمقًا لما يقرب من عام، إلا أنهم لم يختلفوا أبدًا على احترامهم له أو رؤيته الإصلاحية الصائبة فى الكثير من أزماتنا الحالية، مؤكدين دائمًا على أنهم يتبعون ويؤمنون بالفكرة لا الشخص، وهو ما يلخص ردده الدكتور البرادعى دومًا: «أنا قائد لأحرار وليس قطيع». وبعد عام من الرحيل والصمت عاد البرادعى فى آواخر 2015 من جديد، يطلق تغريداته المنتقدة الصامتة التى لا صوت لها ما زالت ذات صدى قوى يقلق الأبواق الإعلامية التى تتصدر مشهد الدفاع عن النظام الحالى، فسرعان ما تواجه حروفه المعدودة بطوفان من التشويه الذى اعتاده، منذ أن استحضر رياح التغيير فى وجه مبارك ليذهب بمشروع التوريث إلى أروقة السجون، ليظل البرادعى «صنايعى الأمل» والزعيم الروحى لجيل كامل من الشباب آمن بفكرته، حتى وإن كان التواصل معه عبر تدوينات قصيرة متباعدة الزمن، تضعه أيضًا محل غموض وحيرة للكثيرين.