الأكاديمية الوطنية للتدريب تُخرّج أول دفعة من قيادات وزارة العدل الصومالية    المؤتمر: وضعنا اللمسات الأخيرة للدعاية لانتخابات مجلس الشيوخ    "حقوق الإنسان" ينظم ندوة حول تعزيز دور المجتمع المدني في الرعاية الصحية    هشام الدميري قائمًا بأعمال العضو المنتدب التنفيذي لشركة «إيجوث»    41 شهيدًا في غارات الاحتلال على قطاع غزة منذ فجر الخميس    الزمالك يعلن رسيماً تجديد التعاقد مع عبد الله السعيد لمدة موسمين    ياسر عبد العزيز يكتب: الأهلى والزمالك والإسماعيلى نماذج واقعية لأزمات الكبار    كتلة خرسانية تنهي حياة بائعة خضار بمدينة نصر    آمال ماهر تتعاون مع نادر عبد الله في ألبومها «حاجة غير» ب 6 أغاني    جمال عبد الناصر يعتذر وينفي وفاة الفنانة زيزي مصطفى    ما حكم التحايل على شركات الإنترنت للحصول على خدمة مجانية؟.. أمين الفتوى يجيب    هيئة الدواء المصرية تستقبل وفد منظمة الصحة العالمية لمراجعة تطور آليات العمل    للوقاية من مرض الكبد الدهني- 4 مكسرات تناولها يوميًا    وزير المالية: نسعى لتعزيز دور القطاع الخاص بالقطاعات الاقتصادية والإنتاجية    أسواق الأسهم الأوروبية تغلق على ارتفاع وسط تقارير نتائج أعمال الشركات    في حادث غرق 3 شقيقات بأسيوط .. الإنقاذ النهرى ينتشل جثمان الطفلة آية    بيراميدز يكتسح رجاء مطروح وديا    وزارة الصحة تكشف نتائج التحاليل فى واقعة وفاة 5 أطفال أشقاء بمحافظة المنيا .. اعرف التفاصيل    ما هو حكم اختراق واستخدام شبكات الواى فاى بدون إذن أصحابها؟ أمين الفتوي يجيب    أثليتك: نيوكاسل يحاول ضم ويسا بعد انسحابه من سباق إيكيتيكي    أثليتك: مانشستر يونايتد يرفع عرضه لضم مبيومو    خالد الجندي: تقديم العقل على النص الشرعي يؤدي للهلاك    محافظ سوهاج: يتفقد مستوى الخدمات المقدمة للمواطنين والوضع العام بقرية " المدمر "    أشرف صبحي يلتقي بوزير الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية    أحمد سيد أحمد: "مدينة الخيام" الإسرائيلية فخ لتهجير الفلسطينيين وتفريغ غزة    أوكرانيا تسعى إلى زيادة إنتاج الأسلحة محليا مع تحويل واشنطن صفقة منظومات باتريوت سويسرية لدعم كييف    حالة الطقس اليوم في السعودية.. الأجواء مشمسة جزئيًا في ساعات النهار    "سناتر بلا رقابة".. ظاهرة الدروس الخصوصية تخرج عن السيطرة    إعلام إسرائيلى: اعتراض صاروخين أطلقا من شمال غزة باتجاه مناطق الغلاف    "معلومة مؤكدة".. أول رد رسمي من الأهلي حول الاجتماع مع وكيل مصطفى محمد    غالبًا ما تدمر سعادتها.. 3 أبراج تعاني من صراعات داخلية    وسط إقبال كثيف من الخريجين.. 35 ألف فرصة عمل في الملتقى ال13 لتوظيف الشباب    شيخ الأزهر يوافق على تحويل "فارس المتون" و"المترجم الناشئ" إلى مسابقات عالمية بهدف توسيع نطاق المشاركة    بدائل الثانوية.. كيفية التقدم لمعاهد التمريض بالأزهر - نظام 5 سنوات    انهيار أرضي في كوريا الجنوبية ومصرع 4 أشخاص وإجلاء ألف آخرين    ضبط 3 متهمين غسلوا 90 مليون جنيه من تجارة المخدرات    القاهرة الإخبارية: ارتفاع حصيلة شهداء كنيسة العائلة المقدسة بغزة إلى 3    كشف ملابسات فيديو جلوس أطفال على السيارة خلال سيرها بالتجمع - شاهد    دبلوماسي إثيوبي يفضح أكاذيب آبي أحمد، ومقطع زائف عن سد النهضة يكشف الحقائق (فيديو)    بين التحديات الإنتاجية والقدرة على الإبداع.. المهرجان القومي للمسرح يناقش أساليب الإخراج وآليات الإنتاج غير الحكومي بمشاركة أساتذة مسرح ونقاد وفنانين    الأونروا: 6 آلاف شاحنة مساعدات تنتظر على حدود غزة.. والآلية الحالية لا تعمل مطلقا    مستوطنون يقتحمون باحات المسجد الأقصى .. والاحتلال يعتقل 8 فلسطينيين فى الضفة    مدبولي يتابع خطة تحلية مياه الساحل الشمالي الغربي حتى 2050.. وتكليف بالإسراع في التنفيذ وتوطين الصناعة    «أزهرية القليوبية»: انتهاء تصحيح مواد العلوم الثقافية اليوم والشرعية غدا    في 6 خطوات.. قدم تظلمك على فاتورة الكهرباء إلكترونيًا    للعام الثالث.. تربية حلوان تحصد المركز الأول في المشروع القومي لمحو الأمية    "IPCC" الدولي يطلب دعم مصر فى التقرير القادم لتقييم الأهداف في مواجهة التحديات البيئية    هل الخوف فطرة أم قلة إيمان وعدم ويقين بالله؟.. محمود الهواري يجيب    ليفربول يقدم عرضا ضخما إلى آينتراخت لحسم صفقة إيكيتيتي    احتفالاً بالعيد القومي لمحافظة الإسكندرية.. فتح المواقع الأثرية كافة مجانا للجمهور    فيلم الشاطر لأمير كرارة يحصد 2.7 مليون جنيه في أول أيامه بدور السينما    جامعتا القاهرة وجيجيانغ الصينية تبحثان تعزيز علاقات التعاون المشترك    إغلاق حركة الملاحة الجوية والنهرية بأسوان بسبب سوء أحوال الطقس    وفاة والدة النجمة هند صبري    نائب وزير الصحة يعقد الاجتماع الثالث للمجلس الأعلى لشباب مقدمى خدمات الرعاية الصحية    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: بروتوكول تعاون مع الصحة لتفعيل مبادرة "الألف يوم الذهبية" للحد من الولادات القيصرية    محافظ منطقة واسط بالعراق: 50 شخصا إما توفوا أو أصيبوا إثر حريق هائل في مركز تجاري بمدينة الكوت    دعاء في جوف الليل: اللهم إنا نسألك العفو والعافية في الدنيا والآخرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



فى ذكرى رحيله أمل دنقل.. قارئ التاريخ
نشر في التحرير يوم 27 - 05 - 2013

وهناك شعراء كثيرون فى العالم كتبوا تجاربهم البسيطة أو المعقدة ضمن سيرهم الذاتية، مثلما كتب الشاعر بابلوا نيرودا «أشهد أننى عشت»، وقبله كتب الشاعر العظيم الألمانى «جوته»، ومكتبة السيرة الذاتية تكتظ بكتابات كثيرة فى هذا المجال، ولكن أمل دنقل لم يكتب كتابا خاصا يسرد فيه تفاصيل قراءاته واستنتاجاته وخططه النقدية ووجهات نظره، ولكنه ترك تراثا نقديا تجلى فى حوارات وبضعة مقالات قليلة، لتقول الكثير، بالإضافة إلى الهوامش النقدية التى كان يضعها للقصائد، مثلما فعل فى ديوانه «أقوال جديدة عن حرب البسوس»، والذى كان يضم قصيدته الأشهر «لا تصالح»، وأراد أمل أن يضع اقتباسا فى بداية الديوان يقول: (فنظر «كليب» حواليه وتحسر، وذرف دمعة وتعبر ورأى عبدا فقيرا واقفا فقال له: أريد منك يا عبد الخير، قبل أن تسلبنى أن تسحبنى إلى هذه البلاطة القريبة من هذا الغدير، لأكتب وصيتى إلى أخى الأمير سالم الزير، فأوصيه بأولادى وفلذة كبدى.. فسحب العبد إلى قرب البلاطة، والرمح غارس فى ظهره والدم يقطر من جنبه.. فغمس «كليب» إصبعه فى الدم، وخط على البلاط وأنشأ يقول: لا تصالح ولو منحوك الذهب).
هنا يريد أمل أن يضع القارئ المتلقى فى الصورة كاملة قبل أن يقرأ القصيدة، ولأن أمل دنقل كان مدججا بوعيه التاريخى، كان دوما يضع إشارات وتعريفات وتوضيحات، ففى هذه القصيدة على وجه الخصوص، آثر أن يذيلها بتعريفات للشخصيات الواردة فيها، لربما يكون القارئ غير مدرك لموقعها من التاريخ، فكتب تعريفا لشخصية «البسوس»، وهى المرأة التى أثارت الفتنة بين قيس وأشعلت الحرب أربعين سنة، وأثارت بنى بكر على بنى تغلب، وحملت اسمها الملحمة، وهى كما تقول الرواية «شاعرة عجوز من عجائب الزمان ذات مكر واحتيال وخداع»، وكانت لها أربعة أسماء وهى سعاد وتاج بخت وهند والبسوس، وهى أخت الملك حسان اليمانى الذى قتله الأمير كليب من أجل عمه وخطيبته الجليلة. وكما وضع تعريفا للبسوس، فعل ذلك مع كليب بن ربيعة وجليلة بنت مرة واليمامة وجساس بن مرة والمهلهل بن ربيعة.
وجعلت كلا منها يدلى بشهادته التاريخية حول رؤيته الخاصة.. ومن الطبيعى أن يكون لكل من هذه الشخصيات شهاداتها المختلفة عن شهادة أخرى، لقد استحضرت الملك كليب نفسه فى ساعاته الأخيرة، وأدلت اليمامة التى كانت ترفض الصلح بشهادتها، وكذلك فعل المهلهل الذى قاد الحرب انتقاما له.. وقدمت شهادة جساس مع تبريراته لجريمته، ثم شهادة جليلة بنت مرة الممزقة.. «زوجها وأخيها» ثم أتيت بشهادات لبعض الشخصيات التى تلعب دورا معلقا على الأحداث، والذى يدقق فى هذه الكلمات التى قالها أمل، سيدرك الخطة النقدية التى وضعها لإنشاء القصيدة، ويدرك أن خلف هذا الجهد الإبداعى الكبير، رؤية نقدية عميقة، ومنذ المطلع النثرى للقصيدة، وتذييله ب«أنشأ يقول»، ندرك أن الشاعر أراد أن يقتفى أثر الملحمة، ولكن بطريقته ومنهجه وبرؤاه، هذه الرؤى التى جاءت لتناسب العصر الذى نعيش فيه، أمل يستدعى التاريخ وتفاصيله الدقيقة، ولكن عينيه فى قلب الحاضر الذى نحياه، يستعيد القيم العربية والفروسية الأصيلة فى الشخصية العربية، ويعمل على فك شفراتها القديمة، وإعادة تركيبها فى نسق حديث، وفى لغة شعرية راقية ورقيقة كذلك، حتى المفردات فهى مفردات عصرية، والروح عصرية، لذلك أخذت هذه القصيدة أبعادا كثيرة، فهى تحتمل القراءة بأكثر من مستوى، والرموز المستدعاة بسيطة وواضحة، ولا تحتاج إلى لوغارتيمات.
ومن ذلك ندرك أن الوعى التاريخى العميق أدى إلى وعى نقدى مكثف، فقارئ أمل دنقل ستقابله شخصيات وأحداث تاريخية كثيرة، شخصيات عربية ومملوكية، شخصيات لشعراء مثل أبى الطيب المتنبى وأبى نواس، وقادة مثل سبارتاكوس وهانيبال، وغير ذلك من شخصيات، فالتاريخ عند أمل قادر على تفسير ما يحدث فى الحاضر والواقع المعاصر، والشعر ينتخب أحداثا معينة من التاريخ ويعمل عليها بوعى مفرط، حتى لا يكون استنساخا إيقاعيا لهذه الأحداث، مثلما حدث فى بعض مسرحيات أحمد شوقى، أو عزيز أباظة، فأمل ينتقى لحظة ذروة درامية فى التاريخ، ويستدعى ملابساتها، ويجعل منها منصة إطلاق فنية لرؤاه وهواجسه وتوجعاته وآلامه الجمة، وهذا بالطبع حدث مع قصائد ديوانه «أقوال جديدة فى حرب البسوس»، وحدث فى قصائد «كلمات سبارتاكوس الأخيرة، والبكاء بين يدى زرقاء اليمامة، ومن أوراق أبو نواس، ومقابلة خاصة مع ابن نوح، وخطاب غير تاريخى على قبر صلاح الدين»، والذى يقرأ هذه القصائد وغيرها، سيدرك تماما أن اللحظة التاريخية المستدعاة، ما هى إلا حالة درامية عالية، أتى بها الشاعر لتخدم رؤيته فى الحاضر المعاصر، وكلنا تلقينا قصيدته الشهيرة «كلمات سبارتاكوس الأخيرة» على هذا النحو، فعندما يقول: «يا إخوتى الذين يعبرون فى الميدان فى انحناء، منحدرين فى نهاية المساء، لا تحلموا بعالم سعيد.. فخلف كل قيصر يموت: قيصر جديد، وإن رأيتم فى الطريق هانيبال، فأخبروه أننى انتظرته مدى على أبواب روما المجهدة، وانتظرت هنا شيوخ روما، تحت قوس النصر، قاهر الظلام، ونسوة الرومان بين الزينة المعربدة، ظللن ينتظرن مقدم الجنود، ذوى الرؤوس الأطلسية المجعدة»، هنا سيدرك القارئ المتنوع، أن الشارع لا يقصد روما ولا سبارتاكوس ولا هانيبال، بل سيدرك فورا أن الخطاب موجه إلى الأخوة فى الوطن الذين سحقهم الانتظار، وضرب أعناقهم الصمت والعبودية، لذلك فالقصيدة صرخة فى الحاضر من أجل الحرية المغدورة والمهدورة فى عالم ينتج قيصرا خاف قيصر، وما التاريخ هنا إلا الحامل الفنى والموضوعى لإبداع رؤية فنية معاصرة، وتدخل الأحداث التاريخ كفاعل درامى فى القصيدة، وأمل أكثر من عملوا على تضفير دراما الأحداث التاريخية فى شعره عموما، ولذلك كان مؤهلا لكتاب المسرح والدراما الشعرية عموما، وهو قد شرع بالفعل فى كتابة مسرحية عن قناة السويس، وكتب منها فصلا تحت عنوان «أوجينى» ونشره فى مجلة «صباح الخير» فى يوليو عام 1965، ولكن إدارة تحرير المجلة جعلت هذا الفصل خادما لفكرة الاحتفال بالذكرى 13 لقيام ثورة يوليو، ولم يضمن أمل هذه القصيدة لأى ديوان، وفى العام الماضى نشرت هذه القصيدة فى إحدى الدوريات، ولا أعرف لماذا أقلع أمل عن استكمال هذا المشروع، رغم المؤهلات التى تنطوى عليها قريحته واستعداداته بامتياز.
وكما قرأنا تفسيره النقدى لاستخدامه شخصيات تاريخية فى قصيدته «لا تصالح»، نقرأ له حديثا عن تجربته مع الموروث جاء فيه: «اتجهت لاستبطان جوهر التاريخ ذاته، دون إشارة واضحة إلى مسميات أو أحداث، فى ديوانى (العهد الآتى)، كان التاريخ خلفية لكل ديوان، فتقسيم الديوان إلى إصحاحات، هو شكل مستعار من التوراة، أردت به أن أوجد صلة ما بين التصور الدينى للكون، والصراع الإنسانى، وبين التصور الثورى للصراع المعاصر، بالإضافة إلى أننى أردت أن أؤكد صدق الثورة وحقها الذى لا ينازع باستخدام كلمة (الإصحاح)، التى تعنى كلاما لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه، حتى الآن ما زال فننا متأثرا بتلك النظرة الفلسفية من القرون الوسطى التى تقسم العالم إلى عوالم متعددة، ينشأ بداخلها نظام هرمى خاص بكل منها، فعالم الحيوانات ملكه الأسد، وماكره الثعلب، وأغبره الذئب، بينما يتوج الورد ملكا على عالم الزهور»، هنا ندرك أن أمل لا يستدعى التاريخ اعتباطا، أو ليجلو لحظة درامية فحسب، ولكن هذا الاستدعاء يأتى محفوفا بسلسلة من الإجراءات الفنية والنقدية الجدلية، أقصد أن الحدث التاريخى تتبلور صياغته الفنية فى أثناء محك الإبداع والكتابة، وأريد أن أنوه إلى أن هذا الوعى النقدى ينطلق كذلك من التزام الشاعر بقضايا الوطن، وقضايا الإنسان بشكل عام، وهو مدرك للقيمة الفنية الراقية، حتى لا تكون القصيدة منشورا سياسيا فجا، كما كان يتهمه بعض شعراء السبعينيات الذين أطلقوا عليه «آخر شعراء الجاهلية»، فكان أمل يستخدم الفلاش باك، والأراجيز، والأهازيج، وكما قال فى الاقتباس الذى وضعناه سالفا أنه كتب بعض القصائد على هيئة الإصحاحات، ولكنه خلص الكتابة من هذه الأبعاد الدينية التراثية المعهودة، أمل يحاول أن يستدعى اللحظة التاريخية، والأشكال الكتابية التاريخية، ويضعها فى جدل مع الحياة المعاصرة، لتنتج لنا فنا مستقلا بديعا، مثلما فعل جمال الغيطانى فى رائعته «الزينى بركات»، وكما فعل نجيب محفوظ فى تحفته «ليالى ألف ليلة وليلة»، هنا استخدامات متعددة للشكل التاريخى الذى يتنوع ويتبدل، حسب متطلبات فنية وفكرية وربما سياسية عميقة. ومن الأكيد أن «أمل» كان ملتزما بما يحدث فى اللحظة التى يعيش فيها، وبالتالى فتعتبر قصائده، التسجيل الدرامى الأعلى لقضية حرية الإنسان فى التعبير عن نفسه بشكل مطلق، دون ترهيب أو تعذيب أو سجن أو اعتقال، وتكثفت هذه الرؤية بشكل كثيف فى ديوانه الأول «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، وقضية التحرر الوطنى من الاحتلال الإسرائيلى والاستعمار عموما، واتضح ذلك فى دواوينه التالية «تعليق على ما حدث، والعهد الآتى»، وكان ديوانه الأخير، والذى كتبه على فراش المرض وهو «الغرفة رقم 8»، معبرا عن نفس تواقة إلى العدل الإنسانى على الأرض، هذا العدل الذى افتقده أمل دنقل وبقية رفاقه الشعراء والكتاب والمبدعين عموما فى جيل الستينيات، وكذلك هذا العدل المفقود على الأرض يتجلى بأقصى صوره فى بلادنا المغبونة، وكان أمل بوعيه النقدى والفكرى والسياسى والفنى، قادرا على تقديم مذكرة دفاع كثيفة عن الوطن والإنسان عموما، كان مؤهلا لكتابة هذه الجدارية الفنية التى امتدت منذ أوائل الستينيات فى القرن الماضى، حتى إن فاضت روحه لبارئها فى 21 مايو من عام 1983، هذا الشاعر الثاقب الوعى ما زال يقتحم مساحات المعنى كافة ليطلق صرخته المدوية لحرية الإنسان، وإقرار العدل على الأرض، فى عالم اخترقته كل معانى الخراب المدمرة، ويترك فينا أملا كبيرا بأن كل ذلك لا بد أن يغيره الإنسان ذاته فى المستقبل المشرق.


دنقل يتحدث
(1)
أبى لا مزيد، أريد أبى، عند بوابة القصر، فوق حصان الحقيقة منتصبا.. من جديد، ولا أطلب المستحيل.. لكنه العدل
هل يرث الأرض إلا بنوها؟، وهل تتناسى البساتين مَن سكنوها؟، وهل تتنكر أغصانها للجذور.. (لأن الجذور تهاجر فى الاتجاه المعاكس؟)
هل تترنم قيثارة الصمت.. إلا إذا عادت القوس تذرع أوتارها العصبية؟، والصدر حتى متى يتحمل أن يحبس القلب..
قلبى الذى يشبه الطائر الدموى الشريد؟
قارئ
التاريخ
(2)
«صورة»
هل أنا كنت طفلا
أم أن الذى كان طفلا سواى؟
هذه الصورة العائلية..
كان أبى جالس، وأنا واقف.. تتدلى يداى
رفسة من فرس
تركت فى جبينى شجًّا، وعلّمت القلب أن يحترس، أتذكر.. سال دمى، أتذكر، مات أبى نازفا، أتذكر.. هذا الطريق إلى قبره..
أتذكر أختى الصغيرة ذات الربيعين، لا أتذكر حتى الطريق إلى قبرها المنطمس، أو كان الصبى الصغير أنا؟ أم ترى كان غيرى؟ أحدق.. لكن تلك الملامح ذات العذوبة لا تنتمى الآن لى.. والعيون التى تترقرق بالطيبة الآن لا تنتمى لى، صرت عنى غريبا، ولم يتبق من السنوات الغريبة إلا صدى اسمى، وأسماء من أتذكرهم فجأة بين أعمدة النعى..
(3)
وسلال من الورد، ألمحها بين إغفاءة وإفاقة، وعلى كل باقة، اسم حاملها فى بطاقة..
تتحدث لى الزهرات الجميلة، أن أعينها اتسعت، دهشة، لحظة القطف، لحظة القصف، لحظة إعدامها فى الخميلة، تتحدث لى.. أنها سقطت من على عرشها فى البساتين، ثم أفاقت على عرضها فى زجاج الدكاكين، أو بين يدى المنادين، حتى اشترتها اليد المتفضلة العابرة
تتحدث لى..
كيف جاءت إلىّ..
(وأحزانها الملكية ترفع أعناقها الخضر)
كى تتمنى لى العمر
وهى تجود بأنفاسها الآخرة..
كل باقة
بين إغفاءة وإفاقة
تتنفس مثلى، بالكاد، ثانية.. ثانية
وعلى صدرها حملت، راضية، اسم قاتلها فى بطاقة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.