(1) غنى فضل شاكر في تغريبته الإرهابية أناشيد عديدة، منها أغنية بعنوان "نوري اكتمل"،يحلو لواضعها على يوتيوب و"ساند كلاود" أن يرفقها بوصف "الفنان التائب"، ورغم عذوبة صوت شاكر، إلا أن الأنشودة _كزميلاتها في التغريبة_ بقيت مجهولة، تصادفها فقط وأنت تبحث عن اسم قائلها لتستمع لأغانيه القديمة، إذا أصابتك نوبة نوستالجيا لمشاعر عصفت بك، ثم كمنت آثارها بين الأنغام والكلمات. بقيت أغاني التغريبة مجهولة، وعاد فضل من القتال إلى منزله في مخيم عين الحلوة، لينجو من التوقيف، حيث يمنع اتفاق الطائف مداهمة المخيمات، وظهر في لقاء تليفزيوني وحيد وخلفه العود، معلنا إمكانية عودته بشكل غير مباشر. ذهب فضل وعاد، بقيت في الوجدان صورته القديمة وبهتت حياته في التغريبة، فلم يتذكرها أحد، والسر أنه لا "فن في موطن يقطنه حراس القواعد"، فهناك حيث يضع الأمير قواعد للحياة والفضيلة، لا مكان للحرية وكسر الاعتياد، تخرج الألحان على "مازورة" القديم، و"تفلتر" الكلمات على رغبات و تفسيرات شيخه أحمد الأسير. ويبقى الصوت حائرا تائها، حتى يذبل. الفن خصم الموعظة ورفيق التمرد، قاعدة أثبتتها تجارب عديدة، سقط أدب السوفيت الرسمي وبقي المتمرد عليها، خلد شعر صلاح عبد الصبور ومات شعر جابر قميحة، ينبض يوسف شاهين رغم الموت، ويموت إنتاج جيل كامل من مخرجي الإرشاد القومي. (2) عاد فضل شاكر من التغريبة الإرهابية لكن ذهب هاني شاكر إلى تغريبة المحتسب، قال محتكر توزيع القبلات على جمهوره، إن "الضبطية القضائية" الممنوحة له من وزارة العدل ستمكنه من ضبط الأخلاق، ومنع دخول "قلة الادب" إلى البيوت. لنصر أبو زيد تعبير بديع يقول فيه إن "حراس القواعد. يهدفون إلى تجميد اللحظة الأبدية وجعلها تاريخية". هاني نجح بعد مشوار صعب، في زمن العندليب ووردة وفايزة أحمد، ظل في الصفوف الخلفية طويلا إلى أن أصبح "أميرا للغناء"، ارتاح هو للقب، ثم أراد تجميد اللحظة لثلاثين عاما أخرى، فيصبح هو الغناء، مرة باسم الأصالة، وأخرى باسم مندوب الزمن الجميل في زمن الابتذال، وها هو يجد مهمة جديدة كمندوب للأخلاق. ليس صحيحا أن داعش تمنع الغناء، فهي تفرض نوعا واحد منه، الاناشيد، ومن يخالف يحتجز عشرة أيام في السجن ثم في وقت آخر عدلت العقوبة في الرقة إلى جلد من يستمع للأغاني العادية. المشترك في رحلة هاني منذ أفول نجمه هو البحث عن سلطة "الإمارة"، وبينما تبحث السلطة عن "المعياري"، يبحث الفن عن كسر المعايير. كان من وصايا محي الدين اللباد مثلا أن يخرج الفنان من أسر قواعد الفن التشكيلي ونسبه وتكويناته، بل تمنى نسيان فترة دراسته بكلية الفنون الجميلة. لك أن تتخيل محمد منير "يرتدي جينزا وتي شيرت أبيض" ويتراقص على مسرح حديقة الأزبكية في الستينات، أو "بوب مارلي" يغني في الأوبرا، أو مايكل جاكسون يتراقص في حفل انتهاء الحرب الاهلية الامريكية بالقصر الجمهوري. أو حتى هاني شاكر نفسه يقبل عشرات الفتيات، وتصاب ثلاثين منهن بالإغماء في زمن صالح عبد الحي( مثلما حدث في حفلة له ببيروت في التسعينات).. كان هذا كله في سياق زمني آخر ابتذالا، ومع كسر القواعد، صار عاديا، بقي الثمين منه، وانزوى الغث، فيما يطالب هاني شاكر بالعودة للقواعد ليضمن سلطته كأمير للموسيقيين. لم يكتف الأمير بتجميد القواعد، بل يريد وأد الاعتراض على منحاه الأميري، فيتورط في القول إن "حرية التعبير هي التي أنتجت قلة الأدب. وأوصلتنا للحضيض". فلا غناء إلا غناء الأمير ولا رأي إلا رأيه.