هل تذكرون مبروك، وبالطبع هو غير مبارك؟! قطعًا تذكرونه وقد ضحكتم معه وعليه، ومبروك مواطن مصرى على باب الله فى الذكاء والخبث والحرص والتفكير المنظم والخبرة بالجانب الخفى من الدنيا، يحيا فى عالم فقير ومحدود وفى غاية السذاجة، ولعبه دوره الممثل الرائع «إسماعيل ياسين» فى فيلم العتبة الخضراء؟! وبالمناسبة كان الفيلم الذى كتبه اللامع جليل البندارى فى الخمسينيات من القرن الماضى عن عملية نصب حقيقية اشترى فيها هذا المبروك «التروماى» فعلا! هل يمكن أن يتكرر مبروك فى عصر الإنترنت والفضائيات مع هذا القدر المخيف من الإعلام والمعلومات؟! الإجابة المنطقية.. تجزم بقوة وبكل التحدى: لا. الإجابة الواقعية.. تعترف بخجل وكل الضعف: نعم. فعلناها شعبًا وأفرادًا. شعبا اشترى تروماى الإخوان ودفع فيه ثورة نادرة هى كل ثروته فى العصر الحديث.. وأفرادا اشتروا تروماى النصابين ودفعوا فيه تحويشة عمرهم وعرق أيامهم وأصبحوا على فيض الكريم.. يا الله.. ماذا فعلت خمسة وستين عامًا فى مبروك أفرادا وشعبا، كيف ظل ساذجًا على نياته يتلاعب به النصاب والنصابون إلى هذه الدرجة؟! يقول أساتذة التاريخ إن أقرب تعريف علمى للإنسان هو «حيوان ذو تاريخ»، أى هو الكائن الوحيد الذى تتراكم خبراته ويتعلم من تجاربه ويأخذ العبرة مما وقع له فى الماضى ويتعظ مما حدث للآخرين، بينما تفتقد الحيوانات هذه الملكات تمامًا، ولا تعرف لنفسها تاريخًا شفاهيًّا أو مسجلًا! فما بالك إذا كان الضحايا الأفراد ليسوا فى «جهل» مبروك وسذاجته، وتعلموا وتخرجوا فى الجامعات وشغلوا مناصب مرموقة، بعضهم يطارد النصابين وبعضهم يحاكمهم؟! وكيف يسقط شعب فى فخ الإخوان وهو خبير المصاعب والمتاعب والاستبداد والغش السياسى والضحك على الذقن باسم الدين وعاش حقبا يقاوم الهوان والقهر والتوريث؟! نحن أمام مصيبة.. قد يكون مفتاحها الطمع الفردى الشرس، وهو حالة غريزية تصيب العقل بالعمى والنفس بالرغبة الجامحة، مثل حيوان تتحكم فيه غريزة البقاء، وهو يكاد يموت من الجوع، فيقع فى شباك صياد حتى لو كان صيادا محدود القدرات! وقد يكون مفتاحها الجمعى الارتباك العقلى والاضطراب النفسى وغياب الرؤية وفقدان الثقة فى الغد، وهى حالة ضبابية تتخبط فيها الجماعة بالغريزة دون العقل، كما يحدث فى المصائد الكبرى، فتسقط بالمئات فى شباك الصيادين! هذا حالنا الآن أفرادا وشعبا، لكن الشعب قادر دومًا على تمزيق شباك الصيادين، وإعادة كتابة مستقبله، لكن الأفراد كان الله فى «عونهم» فلم يبق لهم إلا الحسرة! فمن سيعيد مثلا 280 مليون جنيه جمعها النصابون من الناس؟! قطعًا هو مبلغ رهيب، يعوض الله على أصحابه بالصبر والسلوان، وإن كنت أشك أنهم قد ينسون ما حدث لهم، فالمصاب فادح، والمدهش أن المتهم الذى أوقع بهم ما زال طالبًا يدرس بالجامعة، فى التاسعة عشرة من عمره، والضحايا فى ضعف عمره وأحيانا ضعفيه. والأكثر دهشة أنها نفس اللعبة القديمة «توظيف الأموال» اللعبة التى التهمت ما يقرب من أربعة مليارات جنيه فى الثمانينيات من القرن الماضى، من عرق المصريين وشقاهم فى دول الخليج العربى، فكيف دارت العجلة وعادت إلى نفس المربع بعد 30 عامًا تقريبًا؟! مهما تفلسفنا وادعينا الحكمة وتحدثنا مع أطباء نفسيين وأساتذة فى علم الاجتماع، فالأسباب تبدو مجهولة أو مدفونة فى قرار عميق فى النفس البرية يصعب الوصول إليه، فأبسط التجارب الإنسانية تدق مليون ناقوس خطر من عبارة «توظيف الأموال»، فكيف لم يسمعها الضحايا؟! الفارق الوحيد، إذا كان ذلك يعد فارقًا هو أن الشركات القديمة كانت تتاجر وتسوق بالطرق التقليدية، وتصرف أرباحًا شهريًّا، أما الشركة الجديدة فكانت تسوق عملها عبر الإنترنت «لزوم» التحديث والتطور، واسمها «جلوبال» أى «كوكبى» نسبة إلى كوكب الأرض! وتصرف ربحًا أسبوعيًّا ألف جنيه طعمًا لجر رجل المزيد من (العملاء الطيبين)! وفى المحاضر الرسمية بمحافظة الشرقية لم تذكر ضحية واحدة سببًا وجيهًا لسقوطه فى الفخ.. الغريب أن طالب الجامعة المقبوض عليه متهم بالنصب لا يعرف مصير الأموال، وقال فى النيابة إن هو نفسه كان يورد الأموال التى يجمعها إلى شخص آخر، ما زال هاربًا! المهم أن عددا من الضحايا «تنصحوا» فجأة، وهجموا على والد هذا الطالب وخطفوه، ولم يطلقوا سراحه إلا بعد أن كتب لهم إيصالات أمانة بالمبالغ التى دفعوها للشركة الوهمية، يعنى ارتكبوا جريمة وهم يحاولون استرداد أموالهم. وإذا كانت «جلوبال» تنصب بالجنيه المصرى، فإن آخرين «ينصبون» بالدولار، ربما بسبب فروق التوقيت بين الشرقيةوالقاهرة، والقاهرة عاصمة، والدولار له شنة ورنة فيها، فهى مقر البنك المركزى، والدولار ربحه الآن أعلى من الذهب! لكن كله كوم وأن يكون بين الضحايا ضباط شرطة وبعض رجال القضاء كوم آخر، ويبدو أننا جميعا فى النصب مصريون.. وإذا كانت مصر كلها من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها إلى غربها، قد تعرضت لأكبر عملية نصب، فلماذا لا يلقى بعض المصريين، مهما كانت أوضاعهم التعليمية والاجتماعية، بأنفسهم فى مستنقع النصابين وهم يتصورون أنهم يسبحون على شواطئ المتوسط؟! وبالطبع لم يسلم الصعيد من النصب، لكن على قدر الأحوال فى الصعيد، فنحن أهملنا الصعيد كثيرا، وتركنا أهله يعانون الأمرين، وها هم يردون لنا الدين مضاعفًا فى صندوق الانتخابات، فى الرئاسة والدستور، صحيح لن ينصلح الحال عندهم، فهم مثلنا تعرضوا لعملية نصب كبيرة، وأتصور أن خسائرهم لن تكون مثل خسائرنا، فليس لديهم ما يبكون عليه، فالغنائم قليلة والثروة شحيحة والديمقراطية على مقاس العائلات، وهو نفس ما حدث فى عملية نصب سوهاج، بناحية أولاد نصير بدائرة المركز، فكل المبلغ المجموع «يا دوب» تجاوز أربعة ملايين جنيه «بالتيلة»، والجانى «آخْوان» أى شقيقين جمعا الأموال، بإغراء تجارة الأراضى وتقسيم الأرباح «التى تسد عين الشمس»، «شوف أنت بقى المتر اللى نشتريه بجنيهات نبيعه بعد سنة ولا اتنين بمئة ومئتى جنيه»! وأغفل الناس أمرا سهلا شديد الوضوح، أن الدنيا بعد الثورة فى أزمة، لا بيع ولا شراء إلا بالعافية، وأغفلوا غفلا وللضرورة، فيا ترى هل كانت هذه الغفلة من باب إغضاء الطرف، لعل الأمور تمشى أم هى نوع من الانتحار الجماعى فى وقت الشدة؟! وبالفعل انتحرت أم وأصيب ابنها فى علمية تشبه تلك العملية، الأم تاجرة عملة بلغت من العمر أرذله، خمسة وثمانين عامًا بالتمام والكمال، ومعها ابنها، وكانا فى طريق عودتهما بسيارتهما من القاهرة إلى ساحل سليم بأسيوط ثم إلى القاهرة، محملين بمليونين وسبعمئة ألف جنيه مصرى، عوائد من تجارة العملة، فخرج عليهما ثلاثة مسلحين على طريق البر الشرقى داخل حدود المحافظة، وأمروهما بوقف السيارة، لكن الأم لم تستجب وطلبت من ابنها «دوس بنزين يا وْلْد»، فتم مطاردتهما بالرصاص، بعضها رشقت للأم فى مقتل فماتت على الفور، وأصيب الابن بإصابات بالغة، وأخذوا المبلغ كله على «داير مليم»! والسؤال: ألم يكن حمل هذا المبلغ والسفر به ليلا هو نوعًا من الانتحار فى وطن لم يعد فيه لا أمن ولا أمان؟! طبعا لو كانت الأم تثق فى البنوك لكان لها حساب بنكى يحميها من مثل هذه المخاطر غير الضرورية، لكن فقدان الثقة فى النظام العام سواء كان اقتصادا أو سياسة، له أنياب مصاص دماء يقع بين براثنه الناس العاديون! وعموما قد نجد قاسمًا مشتركًا فى مناخ اللخبطة والتضارب والانقسام والتعمية وسوء الثقافة وسوء الفهم، وكلها معاول تضرب فى جنبات الوطن بقسوة مفرطة، وكما اختار الضحايا بعض النصابين تشعلقوا فيهم كفرصة للخروج من الأزمة الاقتصادية فتعقدت أزماتهم، اختار المصريون الإخوان تجربة جديدة قد تنفع فى تلك الأيام السوداء، فاسودت أيامهم أكثر! هؤلاء دفعوا بعض «شقاهم»..وهؤلاء دفعوا بعض عمرهم! هؤلاء لن يعود لهم ما ضاع، لكن الشعب قادر على ردع من نصبوا عليه وحلبوا ثورته سلطة فى حجرهم واشتروا بتضحياته نفوذا وتمكينا وتغولا عليه!