أسئلة المستقبل "تعبى" رغم الخطب العصماء وضجيج الرياء .. فاللحظة المصرية تئن وتبدو غريبة مغتربة عن سياقات المستقبل المتعددة المستويات والتحديات، والأمر لا يتعلق بمتغيرات إقليمية ومؤشرات خطيرة حول إعادة هندسة إقليم الشرق الأوسط، وانما هناك أيضا ثورة رقمية جديدة تشكل صراعا على المستقبل. كيف نكون طرفا فاعلا في المشهد العالمي المهموم بصراعات المستقبل، بينما تكشف أرقام وتقديرات أعلنها مقرر المجلس القومي للسكان الدكتور عاطف الشيتاني عن أن نحو ثلث المصريين في الفئة العمرية 15 عاما فأكثر أميون، وأن نسبة تصل إلى 40 فى المائة من ذوي المؤهلات الجامعية او فوق الجامعية متعطلون، فيما فشل التعليم في إعداد الطلاب لسوق العمل؟!. هل نجلس في انتظار ما سيأتي به المستقبل؟!. ننضم لسلالة الأقنان في نظام الاقطاع الجديد للعصر الرقمي والسماسرة الجدد وننتظر الثمر المخاتل للشبكة المراوغة والعناكب الفظة التي لن تبقي على حدائق للأبناء والأحفاد؟! هذا عالم يندفع بايقاع شبكة الانترنت نحو مستقبل تتصارع القوى الكبرى الآن على تحديد ملامحه، وقد تتفق على صيغة ما لتقاسم غنائمه، فيما يجد مثقفون كبار في البحث عن معنى أكثر إنسانية لهذا المستقبل ومحاولة إضفاء طابع أخلاقي على لاقتصاد الرقمي. مقولة "لا قيمة لمستقبل بلا معلومات" ترددت وتتردد كثيرا بل أن المعلومات تتزايد أهميتها حتى على مستوى المخرجات الثقافية، إذا كان الأمر كذلك ومادامت المعلومات هي الورقة الرابحة في الحاضر والمستقبل فكيف يمكن تحسين سبل الحياة والكسب الإنساني؟. إجابة هذا السؤال تشكل المحور الرئيس لكتاب "من يملك المستقبل؟" لمؤلفه جارون لانيير وهو عالم كمبيوتر وصاحب فتوحات في دنيا الحاسوب ومثقف مهموم باشكالية الافتقار للعدالة المعلوماتية في عصر الاقتصاد الرقمي وانعكاسات هذه الإشكالية بما تنطوي عليه من "استعمار او امبريالية معلوماتية جديدة "على المستقبل. لكن أين نحن من هذا السؤال المتعلق بالمتغيرات الخطرة في الاقتصاد الرقمي، بينما طرح الدكتور محمد السعيد إدريس سؤالا مشابها عن موقفنا حيال التحركات المثيرة للقلق بشأن "الهندسة الجديدة لاقليم الشرق الاوسط"، معتبرا أنه "لا أحد يهمه أن يجيب لأننا لم نعد نعرف من نحن ولاماذا نريد ولاكيف نستجمع قوانا لاستعادة بلدنا وهيبتها وفرضها قوة إقليمية قادرة على المنافسة وحماية مصالحها". صراعات المستقبل متعددة ومركبة بالفعل وتدور على الأرض وفي الفضاء الالكتروني، وإذا كان الباحث البارز محمد السعيد إدريس يتحدث عن مخطط إعادة هندسة إقليم الشرق الأوسط في سياق استراتيجية أمريكية عالمية جديدة تتجه لنقل ثقل الصراع العالمي من أوروبا والشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى لمواجهة خطر بروز الصين كقوة عالمية منافسة وخطر احتمال تكوين محور آسيوي عالمي يضم الصين وروسيا والهند فإن قضية الامبريالية المعلوماتية الجديدة متصلة على نحو ما بهذا المخطط للهيمنة الأمريكية المعولمة. جارون لانيير اختار تعبيرا آخر هو "نظام الاقطاع المعلوماتي" الذي يحقق مكاسب مالية كبيرة للفئة المالكة بجشعها المفترس للعبيد او الأقنان في هذا النظام الجديد بظلاله المستقبلية القاتمة، فيما يتساءل في هذا الكتاب الجديد عما إذا كانت البشرية قد تخلت عن كثير من السلطة وبصورة أكثر مما ينبغي للشركات الرقمية الكبيرة. ويتعرض جارون لانيير لقضايا مثل مآلات القيمة الاقتصادية ومساراتها في عصر المعلومات فيما المعلومات تتجاوز من حيث أهميتها للاقتصاد أهمية العمالة البشرية ويناقش كذلك أهمية المعلومات التي يولدها الإنسان المعاصر ذاتيا والتغير في مفاهيم إنسان العصر الرقمي مثل مفهوم السعادة. وفي مواجهة نظام الاقطاع الجديد والمسلح بتقنيات ثورة المعلومات يتبنى جارون لانيير نظاما مضادا يقوم على فكرة "بناء اقتصاد معرفي إنساني تتمتع فيه كل الأطراف بالكرامة الاقتصادية عبر الاثابة النسبية حسب اسهامات كل طرف في العناقيد الهائلة للمعلومات والتي تسمى بالبيانات او الداتا الكبيرة الجوالة عبر الشبكات الرقمية". وعالم الكمبيوتر الكبير جارون لانيير متفائل بطبعه مثله مثل الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل وذلك الرهط من الرجال العظام المتفائلين تاريخيا بالمستقبل والمؤمنين بأن الغد لابد وأن يكون أفضل من الأمس مهما كانت تحديات الحاضر وصعوبات اللحظة. وإذا كان لانيير يشعر بالقلق حيال المستقبل ليس من باب التشاؤم وإنما لأن الإنسان المعاصر لم يفجر بعد الكثير من امكاناته الكامنة فإن الكاتب الصحفي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل يقول :"إن الوطن يمر بلحظة يحتاج فيها لكل شعاع ضوء يمكن توجيهه إلى المستقبل في ظروف تغيم فيها الرؤى وتتعثر الأحلام". ونوه هيكل في ملتقى اقتصادي عقد في مطلع الأسبوع الثاني من شهر أبريل الحالي إلى أنه على الرغم من أنه شخصيا يعرف "أنه رجل عليه أن يلتفت إلى الوراء ليرى مستقبله" لكنه يعرف أيضا أن المستقبل يشغله ويلح عليه لأنه مواطن "يعرف أن مسيرة الحياة مستمرة وانها على الدوام إلى الأمام وأن الشباب بالتحديد مناط الأمل والرجاء". ورأى محمد حسنين هيكل أن اكثر ماتحتاج له أمة عاشت ولاتزال حالة ثورية تحركها طموحات بلا حدود مع ملاحظة أن السنوات الأخيرة من حياتها كلفتها الكثير من مواردها وامكانياتها هو "خط يبشر بأمان يوميء ويشير إلى مستقبل قابل للوعد وقابل للتحقيق". وكما يقول الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل :"ولسوف انتظر وينتظر غيري كثيرون أن نلمح البشارة وهي على وجه اليقين قادمة لأن الحياة غلابة والأمل القائم على المعرفة وقود إلى مستقبل قادر على زمانه، كما ان هناك تاريخا لدى هذا الشعب يزكي ويرجح ويطمئن المتشوقين بلهفة لما ينتظرونه باستحقاق". مصر ثورتها في الأصل مهمومة بالمستقبل والعالم الآن بمثقفيه الكبار مثل جارون لانيير مهموم بثورة تحمل وعود عصر جديد من الشفافية الاجتماعية-الاقتصادية وبديمقراطية لاتتعارض مع الخصوصية الانسانية في مواجهة هجوم الاقطاع المعلوماتي الجديد بأقنعة انترنتية متعددة في شبكة عنكبوتية ليست محايدة كما يتصور البعض ولاتعرف حتى الآن التحميل المجاني للكرامة!. نعم "طالت سنوات التيه وحان للدليل أن يعطي لأهله إشارة وبشارة بأن الطريق إلى المستقبل مفتوح حتى وإن كانت التضاريس أمامه صعبة وعصية" .. والخطورة أن ذلك يحدث في عالم يتطور بسرعة رهيبة ثم أن أحد أخطر جوانب "العالم الرقمي الجديد" أنه لاينسى ولايغفل وهي خاصية يمكن استخدامها بكفاءة في تعزيز القدرات على كل المستويات. لعل توظيف المعلومات من أجل مستقبل مصري أفضل قضية حيوية في هذا الخضم من أمواج المتغيرات الخطرة اقليميا وعالميا.. على الأرض وعلى الشبكة العنكبوتية.. في الفضاء الطبيعي والفضاء الالكتروني. لكن ثمة حاجة واضحة لمستويات جديدة من النضج والانضباط والمسؤولية الجماعية لبناء مستقبل مصري ولا وقت نضيعه في المتاهة الخرساء رغم الضجيج الظاهر حتى لانستجير في انتظار رحمة الامبريالية الجديدة في العصر الرقمي..وهي رحمة لن تأتى أبدا. فمن يفتح ابواب المستقبل من أجل الأبناء والأحفاد ولوجه الوطن وأرض الأجداد؟!!..من يفتحها حتى لاتتصحر الضفاف ولايبقى سوى الرمل والرماد؟!.