رغم التربية الدينية التى شملت نصر حامد أبو زيد منذ طفولته، وحفْظ القرآن، ودخوله جماعة الإخوان المسلمين، وخروجه منها سريعا، فإن هذه التربية الدينية المتزمّتة، والتى دفعته إلى الانتظام فى صفوف الجماعة صغيرا، لم تمنعه عن الاجتهاد العقلى المنفتح كبيرا، وجر عليه هذا الاجتهاد سلسلة من المتاعب والكوارث والقضايا التى لاحقته وأدت به إلى اللجوء خارج البلاد، ليس هربا، ولا تنازلا، ولا خوفا، ولا استسلاما للمهادنة ولكن لاستكمال رسالته التى نذر نفسه لها، وظل يتلقى سهام النقد والتجريح والتكفير، ولم يتوقف ناقدوه وناهشو لحمه عن هذه الملاحقة فى حياته فقط، بل ظلوا يواصلون هذا القذف المتعدد حتى بعد رحيله، للدرجة التى أوصلت خصومه إلى حد الشماتة والتشفى فى رحيله، ونعته بكل النعوت التى تبتعد عن سماحة الإسلام، ولا تقتضى بالحديث الشريف القائل «ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذىء». كانت حياة نصر حامد أبو زيد حياة متقشفة إلى حد كبير، حصل على دبلوم صنايع، وبعده التحق بهيئة المواصلات السلكية واللا سلكية، وعمل فى قسم «الشيكينج»، من عام 1961 حتى عام 1972، واجتهد حتى حصل على ليسانس الآداب بتفوق، والتحق بالعمل بالجامعة معيدا عام 1972، وكان فى ذلك الوقت ينفق على أسرته الفقيرة، ولكنه كان قارئا جادا ومثقفا كبيرا، وكانت رفقة المحلة الكبيرة التى تضم فى إهابها مجموعة من المبدعين مثل السعيد سلامة الكفراوى (الشهير بسعيد الكفراوى) ومحمد المنسى قنديل وجابر أحمد عصفور (الشهير بالدكتور جابر عصفور) ومحمد صالح وجار النبى الحلو ومحمد فريد صالح أبو سعدة ورمضان جميل وغيرهم. كانت هذه المجموعة تعلن عن نفسها رويدا رويدا فى مجالات الكتابة بقوة عبر المسابقات والنشر فى مجلات العاصمة، مثل مجلات «الشعر» و«القصة» و«المجلة» و«الأدب»، وكان نصر يقرض الشعر وينشره، ولكنه لم يضم هذه الأشعار فى كتاب بعد ذلك، ربما لانشغاله بقضايا البحث والدرس الفكرى والنقدى على السواء، وأظنه توقف عن قرض الشعر، ولكنه واصل كتابة النقد الأدبى مع البحث الفكرى، وكانت قضيته التى تفجرت كما هو معروف فى النصف الأول من التسعينيات، عندما تقدم الدكتور نصر حامد أبو زيد الأستاذ المساعد بكلية الآداب جامعة القاهرة بإنتاجه العلمى للترقية إلى درجة أستاذ بقسم اللغة العربية، وقدم عددا من البحوث المهمة، ولكنها لم ترقَ إلى مستوى الترقية كما قرر بعض أعضاء اللجنة وعلى رأسهم الدكتور عبد الصبور شاهين، الذى لم يكتفِ برفض الترقية فقط، بل إنه هاجمه فى خطبته يوم الجمعة 2 أبريل 1994 سعيا إلى ما هو أبشع من العقاب الوظيفى كما يقول أبو زيد فى كتابه «التفكير فى زمن التكفير»، وفى ما بعد وضع عبد الصبور كتابا كاملا تحت عنوان «قضية (أبو زيد) وانحسار العلمانية فى جامعة القاهرة»، ولم يترك وسيلة إلا واستخدمها فى هذا الكتاب لتلويث سمعة أبو زيد، والتحريض عليه، وتكفيره، ووصفه بصفات لا تليق بباحث، فيكتب مثلا «وقد انزلق هذا العلمانى الكويتب» و«شقشقة طالما هذر بها الماركسيون المخادعون، وما زال يهذى بها تابعهم فى كل ما كتب من أوراق»، وشاركت جوقة كبيرة فى ذبح أبو زيد، منهم بالطبع محمد جلال كشك، وأحمد حسين الطماوى، وسناء فتح الله، وثروت أباظة، وطبعا الشيخ محمد الغزالى والدكتور مصطفى الشكعة وفهمى هويدى وغيرهم، وعلى الجانب الآخر كتب كثيرون لمناصرة أبو زيد لجلاء الحقيقة التى لم تعد خافية على أحد، وهى أن حفنة من أساتذة الجامعة يتربصون بكل فكر منفتح يحاول تخليص الفكر الدينى من الخرافات الرجعية التى لا تقدم أدنى تقدم، وفى هذا الوقت كان أبو زيد يكتب مقالا شهريا فى مجلة «أدب ونقد» تحت عنوان «خطاب الحرية» يفضح فيه كل هؤلاء، نحن هنا لا نريد طرح القضية فى هذه العجالة، ولكننى أريد فى انتظار 10 يوليو المقبل، وهو الذكرى السبعون لميلاد الراحل الكبير، أن أنوه عن الجانب الأدبى والإبداعى الغائب عن مؤرخى مسيرة المفكر الجليل، وهو له مجموعة قصائد ما زالت مطوية فى عدد من المجلات المصرية، وكذلك مجموعة مقالات نقدية، ليتنا ننتبه إليها ونحن نؤرّخ لمسيرته، وهنا ننشر قصيدة نشرها أبو زيد فى العدد الأول من مجلة الثقافة الجديدة، والصادر فى أبريل عام 1970، وكانت هذه القصيد فائزة ضمن مسابقة فاز فيها الشعراء محمد يوسف ومحمد فريد أبو سعدة وعبد اللطيف عبد الحليم وآخرون، وها هى القصيدة. رسالة إلي شاعر من قلب الريف تتلوّن أغنيتى بحفيف النخل وأنين الساقية الثَّكْلَى وصراخ الطفل الجائع فى الليل المظلم والأرض استلقت كقتيل يلفظ آخر نبضاته ليس هنالك غير الحسرة والأحزان وتموت الأغنية على شفة الشاعر. لكنَّكَ يا شاعرنا الأكبر ما زلت تغنِّى لعشيقتك السمراء بقاعات «الهيلتون» ولذات النهد الرجراج «بباريس» ولساق الثالثة الأخرى فى «مدريد» وغناؤك، رغم الأحزان، يدق الباب يدخل دون استئذان ردهات الدار ليعكر صفو الحزن الجاثم فى الأعماق. معذرة يا سيدى الشاعر فأنا أيضا شاعر لكنى من أعماق الريف أغنّى للأرض لكى تنبت عودا أخضر يأكله الأطفال الجوعَى أحمل قيثارى وأدور مع الليل الصامت عَلِّى أُدْفِئ مقرورا أو أحمل هَمًّا عن محزون أو حتى أرفع حجرا كان يسد طريق. معذرة يا سيدى الشاعر فالليل طويل وحزين و«بهية» ما زالت تبكى يسين نوقد تحت القدر لنلهيهم فيناموا من غير غطاء. يا سيدى الشاعر أعلم أنى ما زلت صغيرا لكنى أحمل فى قلبى الأجيال ونضال الشهداء العظماء من أجل البسطاء المطحونين فرجال القرية صفر مهزولون يأكلهم دود «البلهارسيا» ونساء القرية يمضغهن «السُّل» لا حب هناك ولا لمسات ملتهبة لا شىء سوى الحزن الجاثم فى الأعماق تسخر منه أغانيك المشتعلة بلهيب الجنس ولهذا فأنا أرجوك بِاسْم الشهداء العظماء بِاسْم البسطاء المطحونين أن تصمت لحظة حتى تنتهى مراسيم الحزن. نصر حامد أبو زيد - أبريل - 1970