أهوى الموسيقى الكلاسيك، وتسحرنى سيمفونيات موتسارت وبيتهوفن وتشايكوفسكى ورحمانينوف وكورساكوف، وغيرهم من عباقرة الإبداع الموسيقى. ولطالما قضيت أسعد الأوقات حاضرا العزف الحى لأشهر الفرق وأعظم العازفين فى عواصم العالم، وهم يقدمون الموسيقى، ومعها شىء من روح الموسيقار نفسه والعازف نفسه. وقد شغلنى كثيرا فى أثناء حضور حفلات الموسيقى دور قائد الأوركسترا، وأحسست بعظمته وشموخه، وهو يقف مواجها فرقته، ومعطيا ظهره للجمهور، ليتمكن من قيادة الفرقة، وتوجيه كل عازف للحركة المقبلة. وكم لاحظت تعلق عيون أعضاء الفرقة بالمايسترو وعصاه الشهيرة، تلك العصا التى تبث الإشارة، فتنتقل إلى العازف، وتسرى فى كيانه، ثم إلى أصابعه، لتصنع أجمل النغمات فى هارمونى متناسق وبديع. غير أن كثرة حضورى للأعمال الموسيقية الكبيرة فى أوروبا وأمريكا وكندا ومصر قد نبهنى إلى شىء كنت أراه دون أن يثير دهشتى مع أنه مدهش، وهذا الشىء هو أننى اعتدت أن أرى المطربين والمطربات العرب يغنون وإلى جوارهم صاحب الفرقة الموسيقية، يقف ممسكا بعصاه، ويقوم بدور المايسترو الذى يقود الفرفة.. الآن أصبحت أدرك أن المسألة فيها شىء غلط، لأن الأغنية العربية هى أغنية بسيطة غير مركبة، والموسيقى فيها ليست الأساس، ولكن الأساس هو المطرب بشعبيته وإقبال الجمهور عليه، بصرف النظر عن اسم الملحن أو نوع العازفين وأسمائهم، ثم تلى المطرب فى الأهمية كلمات الأغنية التى يطرب لها السامع ويتمايل معها، خصوصا لو كانت مقفاة وموزونة!.. فكيف والحال هكذا يقف قائد الفرقة متقمصا دور المايسترو فى أغنية بها أقل قدر من الموسيقى؟ لقد أدركت وأنا غير المتخصص وغير الدارس أن الأغنية العربية لا تحتاج إلى مايسترو على الإطلاق، فوجود النوتة الموسيقية أمام كل عازف يكفى ويزيد، لأن العازفين فى الأغنية العربية، سواء كانت مصرية، لبنانية، خليجية أو مغربية، يقومون جميعا وفى نفس الوقت بعزف نفس النغمة باستثناء بعض الصولوهات التى تعد من قبيل الزخرف.. أى أن الكمان يعزف نفس ما يعزفه العود والقانون والأوكورديون والكونترباس والتشيللو والناى، وجميعها تصاحبها الطبلة والدف فى إيقاع يتبع فيه الطبال أذنه دون الالتزام بدقات معينة.. ففيم الاحتياج إلى المايسترو إذن؟ إن الحقيقة أن وجود المايسترو أو قائد الأوركسترا عند العزف السيمفونى هو وجود حيوى وأساسى ولا غنى عنه، ذلك أن الفرقة -على عكس الحال فى الأغنية العربية- لا يقوم أفرادها جميعا بعزف نفس النغمة فى نفس الوقت، وإنما كل آلة أو مجموعة من الآلات تنطلق فى لحن فرعى، يكمله لحن فرعى آخر، تعزفه مجموعة مجاورة من الآلات، والجميع يتقاطعون مع بعضهم البعض، ثم ينفلتون ويعرج كل منهم إلى درب، ثم يعود بعد وقت مقدر إلى المجموعة وذلك فى أداء رفيع مبهر. كل هذا يحتاج إلى القائد المايسترو الذى يحدد لكل منهم بعصاه وبنظرة من عينه وإيماءة من رأسه متى ينطلق ومتى يعود ومتى يتوقف ومتى يلتحم بالمجموعة. هذا هو دور قائد الأوركسترا، وهذا ما يفعله.. فماذا يا ترى يفعل قائد الفرقة فى أغنية عربية عادية، إيقاعها راقص، وتقوم الطبلة فيها بالدور الأساسى، وليس بها توزيع أوركسترالى أو آلات تعزف أكثر من نغمة فى الوقت الواحد؟ لا شك أنه لا يفعل شيئا سوى أن يقف بجسارة، وفى يده العصا، يمثل على الجمهور الطيب أنه يشتغل، وقد ينفعل فى الأداء، فتتقلص ملامحه، وتتشنج أطرافه، ويكتسى وجهه باللون الأحمر، ويداه ترتفعان فى الهواء على نحو أكثر كوميدية مما فعله عبد السلام النابلسى، وهو يؤدى دور حسب الله السادس عشر، ومعه مساعد المايسترو الفنانة زينات صدقى!