لم يكن عرض قطر الأخير بالتوسط بين النظام المصرى الحاكم وبقايا جماعة الإخوان المسلمين المتهاوية فى البلاد مجرد حلقة جديدة من حلقات المناكفة القطرية للنظام المصرى الذى تأسس عقب ثورة 30 يونيو 2013، ومحاولات استنزافه، بقدر ما ينبع هذا العرض، على الأرجح، من مدركات خليجية جديدة لدور ممكن لتنظيم الإخوان فى التريبات الإقليمية فى المرحلة القريبة المقبلة. ويبدو أن السياسة الخليجية، والسعودية خاصة، باتت أكثر تقبلا، للرؤية التى ترى إمكانية لأن تلعب بعض أذرع الجماعة وعناصرها عبر المنطقة، وخاصة فى كل من سوريا واليمن، أدوارًا فى ترتيبات تسوية الحربين الأهليتين المستعرتين فى كلتا الدولتين. ويرتبط هذا الدور وجدواه من جهة بمحاولة أن يسهم حضور تنظيم الإخوان كتنظيم طائفى سنى فى احتواء النفوذ الإيرانى والمكون الشيعى فى كلتا الدولتين؛ ومن جهة ثانية بمحاولة تحييد تنظيمات السلفية الجهادية التى حظيت بدعم خليجى فى بدايات عسكرة الأزمة السياسية فى سوريا وإثارة الحرب الأهلية فى البلاد، قبل أن تكتسب هذه التنظيمات وجها شديد التطرف وتطلعات إقليمية تهدد دول الخليج العربية ذاتها مع تصاعد قوة تنظيم داعش وسيطرته على مساحات آخذة فى الاتساع من الأراضى السورية والعراقية. وبالرغم من مؤشرات هذا التحول فى الإدراك الخليجى لإمكانات توظيف تنظيم الإخوان إقليميا كما تبدت فى الانفتاح السعودى خلال الأشهر القليلة الماضية على إخوان الأردن وحركة حماس الفلسطينية وحزب التجمع الوطنى للإصلاح فى اليمن، فإن حدود هذا التوظيف، والدور الإخوانى، يبدو أنه لا يزال موضوع بحث وترتيب خاصة بين النظامين السعودى والتركى خصوصا بوساطة قطرية. يبدو بالتالى أن محاولة إعادة دمج جماعة الإخوان فى النظام السياسى المصرى والعملية السياسية الجارية فى البلاد، تمثل أحد شروط اكتساب توظيف أذرع هذه الجماعة عبر الإقليم فاعلية ومصداقية، فضلا عن توفير قدر من الدعم الإقليمى الواسع لهذا التوظيف، خصوصا أن استمرار الصدام بين بقايا تنظيم الإخوان وبين الدولة فى مصر، سيفرض امتداد هذا الصدام بين الدولة المصرية وأى حضور إخوانى فى محيطها الإقليمى. يبدو العرض القطرى الأخير فى هذا السياق، محاولة لإنقاذ ما بقى من وجود لجماعة الإخوان فى مصر. وتعانى الجماعة فى ظل فشلها المتواصل فى استراتيجيتها لإفشال الدولة، عزوفا متزايدا من قبل تابعيها عن مواصلة دعم هذه الاستراتيجية وما تفرضه من حالة انعزال عن الاندماج ليس فقط فى بناء الدولة، بل وفى المجتمع الذى يدعمها بشكل متزايد. كما باتت الجماعة تواجه مخاطر انقسام هيكلى نتيجة التنافس بين حرسها القديم، وعدد من عناصر الصف الثالث وشبابها على من يتصدى لمسؤولية قيادتها. ولا يبدو أن هذا التنافس يتعلق بخلاف جوهرى حول الاستراتيجية العامة للجماعة داخل مصر حاليا، بقدر ما يبدو تنافسا على الدعم الخارجى، ومجرد محاولة لتغيير وجوه الفشل وشخوصه، وليس مكوناته وعوامله الهيكلية. رغم هذا «الطلب» خارجى على إجراء مصالحة بين الإخوان والنظام الحاكم فى مصر، لا يبدو أن أى عوامل موضوعية لإجراء هذه المصالحة تتوافر فى الساحة السياسية المصرية حاليا، نتيجة ثلاثة عوامل: 1- عبء اصطناع المظلومية التاريخية من خلال إتجار قيادة الجماعة بدماء الذين قضوا خلال فضى اعتصامى رابعة والنهضة فى أغسطس 2013. يفرض اصطناع هذه المظلومية، وإنكار حقيقة ما كان يمثله هذين الاعتصامين من مؤامرة تستهدف فتح المجال أمام تدخلات خارجية فى الشأن المصرى، قيودا على الخيارات السياسية الممكنة أمام التنظيم الإخوانى. وتتزايد هذه القيود مع محاولة صبغ مؤامرة رابعة والنهضة تلك بصبغة دينية جهادية تجعل فى التراجع عن مطالبها أمام حقائق الواقع السياسى فى مصر حاليا وخيارات شعبها حكما بانهيار ما بقى من وجود للجماعة وانصراف أعضائها عنها خاصة مع ما سيكشفه هذا التراجع من تهافت كل دعاوى قيادات التنظيم وخداعهم لكل من أيدهم. ونتيجة هذا العبء يبدو أفق المصالحة مسدودا بسبب عدم واقعية شروط المصالحة الإخوانية التى يبدو أنها خارج نطاق الزمن والواقع. 2- فى ظل الانغلاق على خطاب المظلومية والانقلاب، يبدو أن ما بقى من عناصر ناشطة فى البناء القيادى للجماعة عاجزة عن إجراء أى مراجعة موضوعية لعوامل فشلها، خاصة ما يتعلق بتبنيها أوهام مشروع أممى غير وطنى تحت مسمى إحياء خلافة جامعة لم تكن فى يوم حقيقة واقعية، فضلا عن أن تكون مطلبا دينيا. ويرتبط بذلك مراجعة محاولة احتكار الدين، وتحديد ما يدعيه تيار الإسلام السياسى عامة إطار تشريعيا يتضمنه النص القرآنى ويتطلبه، وما يترتب على هذه الادعاء الفاسد من استبداد تلقائى بالفضاء السياسى وتقييد خيارات المواطنين والقوى السياسية المخالفة. 3- ليس للدولة المصرية مصلحة فى القبول برؤية توطيف الإخوان إقليميا وما تتضمنه من منطق احتواء طائفى فى تسوية الصراعات الإقليمية، خاصة مع ما سيرتبه هذا المنطق من استمرار حالة الهشاشة والضعف الهيكليين فى دول محورية للأمن المصرى، خصوصا فى سوريا واليمن، وتبدو المصلحة المصرية فى استعادة المنطق الوطنى الجامع واللاطائفى لهذه الدول. يبقى أخيرا، أن الانهيار المتسارع فى هيكل التنظيم الإخوانى داخل مصر، لا يعنى بالضرورة نجاح الدولة المصرية فى هزيمة مخاطر طروحاته الفكرية التى يبدو التنظيم عاجزا عن مراجعتها. ويبدو أن نجاح الدولة المصرية رهن بتبنيها مشروعا تنمويا شاملا وعادلا تتجلى حاليا بعض إرهاصاته الواجب بلورتها بشكل متكامل، وتبنيها مشروعا فكريا يؤسس فعليا المكونات المعرفية والسياسية، وليس فقط المجتمعية، للدولة الوطنية.