قبل عيد الأم بأيام كنت قد وصلت إلى حالة ليس من الأدب وصفها، كلما رأيت واحدا من هؤلاء المتدينين الكذبة الضلاليين الظلاميين، الذى يأكلون مال النبى ويطلقون اللحية والبخور وسموم الجهل والتخلف على الشعب المصرى العظيم.. سمومهم كادت تحجب عنا معنى وقيمة الحياة الإنسانية.. واختلاف أن تحيا لتأكل وتتكاثر وتموت، أو أن تحيا بالمشاعر وبالعقل المبدع، فترى عطايا الله وتبتهج وتترك أثرا يثرى الحياة بعدك.. وتفاقمت حالتى بسبب رسالة أطلقها من منح نفسه لقب شيخ سلفى، محذرا مريديه وأتباعه من عيد الأم، لأنه بدعة غربية وجب رفضها وحذرهم من شراء الهدايا والاحتفال بالأم!!.. لكن دعوة للمشاركة فى احتفال المركز الكاثوليكى بالأم وبعيد العطاء رفعتنى من هذا الوحل إلى سماوات صافية، إلى قوس قزح وطيور مغردة تسبح وترنم، وزهور لا وصف لتأثيرها على النفس.. حفل واحتفال مختلف فى صدقه واختياراته للمكرمين.. اختيار لباقة من المبدعين اختصرت عمق حضارة مصر، وتفردها، وملامحها العلمية والثقافية والفنية والإنسانية.. احتفال تخطى حاجز التمييز والتصنيف الذى غرسه حكم مرسى والمرشد فى قلب مصر والإصرار على تمزيقها إلى مسلم ومسيحى.. المركز الكاثوليكى يواصل رسالة التواصل بالمحبة التى بدأها مجموعة من الرهبان الفرنسيسكان منذ أكثر من ستين عاما.. اختاروا خدمة الإنسان المصرى، والاحتفال بكل من بذل الجهد والتضحية من أجل هدف يسمو بحياة الإنسان، ويغذى عقله ويهذب مشاعره، ويقوده إلى طريق الخير والحب وثمار العطاء المفرحة الخالدة.. الأب بطرس دانيال يتحرك كالفراشة لاصطياد نجوم الحياة لتكريمها، ولتقديمها نموذجا إلى الأجيال الجديدة.. من بين المكرمين كانت شخصيتان تمثلان معنى خاص فى هذا التوقيت.. الدكتورة آمنة نصير أستاذ الفلسفة الإسلامية والعقيدة بجامعة الأزهر، ود.عايدة عبد الكريم، 87 عاما، أستاذ النحت المتفرغة بكلية التربية جامعة حلوان.. لكل منهما مواقف عظيمة ضد الجهل والتخلف والتعصب والقبح كل بأدواته وموهبته.. د.آمنة ثورجية مناضلة ترفض النقاب باعتباره موروثا ثقافيا منذ اليهودية وأصبح ملبسا وهابيا غريبا عنا.. وهو مرفوض لأنه يجهل المرأة ويخفى معالمها ويقطع تواصلها مع المجتمع الذى تعيش وتؤثر فيه.. د.آمنة عضو الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين وهى سفيرتنا فى المحافل الدولية، تجادل بالحسنى وتقنع بالعلم والدين.. تؤمن أن كل إنسان متساو فى الكرامة والتكريم من الله.. ترفض كراهية وتجريح الآخر لاختلافه فى العقيدة.. وترفض تكفير السلفيين للمسيحيين أو التشكيك فى عقيدتهم وحضارتهم التى سبقت الإسلام.. وتدافع بحماس وإصرار على الحقوق السياسية للمرأة المصرية.. وبعد تسلمها درع التكريم وسط الحفاوة والتهليل، أمسكت بالميكروفون تبث الأمل، وتؤكد بحماس صادق واع أن مصر عفية لن يقسمها أحد. أما د.عايده عبد الكريم التى صعدت على المسرح بهدوء وتواضع وامتنان مثل كل المكرمين.. فهى مناضلة بالعقل والروح والأنامل، نحتت حكايتها مع الحياة وجمعتها بمتحف فى سقارة لفن الزجاج والخزف ومركز تعليمى للحفاظ على هذا الفن المصرى من الاندثار وأهدته إلى الدولة.. أهدت تفاصيل معاركها وتحدياتها وآلامها وانتصاراتها الشخصية والعامة، نحتت حكاية كل إنسان مختلف، كل فنان عاش الحياة بمشاعره وإرادته الحرة.. كل إنسان رأى وجه الله فى كل تفاصيل الحياة الحزينة والمفرحة.. ولمس محبته للبشر وفهم عمق رسالته.. وتذوق عطاياه وقدم قرابين الشكر أعمالا فنية تحكى وتعترف وتبشر به، ترنم وتسجد للخالق وتنتظر شمسه كل صباح، تؤمن أن نوره سيشرق ويبدد الظلام والسحب السوداء.. سحب الجهل وعمى البصيرة التى تحول الإنسان إلى مخلوق أدنى من الحيوان فى عبوديته لشهواته وغرائزه.. عبودية تأسره وتذله وتقتله دون أن ينعم بعطايا الله الوفيرة التى تملأ الكون حوله، عبودية حولته إلى جراد وقطيع يأكل ويموت كأنه لم يولد.. كل فرد فى المكرمين هو قصة نجاح إنسانية أضاءت شموعا وشكلت أوركسترا تعزف فى طريق حياتنا سيمفونيات الفرح والقوة والأمل والجمال.. فنانون أبدعوا وناقد سلط الضوء على إبداعهم فاستحقوا التكريم والعرفان.. رتيبة الحفنى، عطيات الأبنودى، رجاء الجداوى، عزت أبو عوف، صابرين، فادية عبد الغنى، سهير شلبى، محفوظ عبد الرحمن، رؤوف توفيق.. واختتم الأب بطرس يوم العطاء بتكريم شهداء ثورة يناير.. صعدت أمهات شهداء رفح.. بعضهن أجلن العزاء وأخريات غلبتهن مشاعر فقد الابن، وكلنا مثلهن تكوينا نار لأن القاتل معروف وحر ومستمر فى القتل.. نار لن يطفئها إلا القصاص للشهداء المقتولين غدرا أو انتقاما مثل الصحفى الحسينى، والذين يتم التنكيل بهم وإقصاؤهم فى مواقع العمل.. بناتنا وأولادنا الشهداء الذين أرهبوهم وهجروهم من وطنهم.. شهداء الشرطة ضحايا عصابة تحرق وتجرف الوطن لسلب المغانم.. التحمت مشاعر الجمهور بالمسرح، كلنا أهالى شهداء.. كل القلوب تخفق مع دوى التصفيق والامتنان المتبادل، ودموع وداع الشهداء، وتعلن التحدى المخيف لأعداء الحياة بهتاف القاعة كلها للوطن وللإنسان بأحلى اسم فى الوجود «مصر».