تحدثنا أمس عمّا كان من أمر حادثة 1942، وكيف أنها كانت إيذانا بتحالف القوى المعادية للديمقراطية تحت دعاوى الوطنية، ضد المشروع الحداثى المصرى، الذى كان يحظى بتأييد الشعب ديمقراطيا مرة بعد مرة. بقيت نقطة وحيدة فى هذه الحادثة. لماذا اختارت بريطانيا أن تقف إلى جانب الخيار الشعبى الديمقراطى وتصر على تكليف مصطفى النحاس زعيم الأغلبية بالوزارة؟ لأنها كانت فى توقيت حرج، وتريد حكومة لديها من التفويض الشعبى ما يمكنها من إدارة الأمور. هذا ألف باء سياسة. ليس حُبًّا فى سواد عيون «الوفد» ولا الديمقراطية. تذكرى هذا جيدا فى السياسة، بريطانيا سابقا، أو أمريكا حاليا، كل ما يهمها فى علاقاتها الخارجية هو ضمان مصالحها. سيبك من كلام المؤامرات والخزعبلات. وأول ناس عارفة الموضوع دا هم أصحاب السلوك الميليشياوى ومدَّعو الوطنية، إنما يصدرون لنا خطاب المؤامرة الكونية استخفافا بعقولنا، وتعظيما لأهميتهم، وأهميتنا!! راقبى سلوك من حولك سياسيا تجدى أن الميليشيات كلها تعتمد خطة إرسال رسالة إلى القوى الأجنبية ذات المصالح، مفادها أننا، وليس غيرنا، الضمان الوحيد لمصالحكم. لأننا، وليس غيرنا، من نستطيع ضبط الوضع. والدليل أننا، وليس غيرنا، الذين نستطيع إشعال الوضع. قارنى بين حجم عمليات حماس قبل السيطرة على غزة وحجم عملياتها بعد السيطرة على القطاع. قارنى بين حجم عمليات حزب الله حين كان بعيدا عن الحكم، وحجم عملياته حين صارت الحكومة موالية له. قارنى وتفكرى. ثم فكرى فى الشطر الثانى من عنوان السلسلة.. جمعة الغضب. ليس هذا الدرس الوحيد من حريق القاهرة، لكن لا يزال فى السلسلة بقية. فلننتظر ولا نتعجل. فى الفترة ما بين نهاية الحرب العالمية الثانية سنة 1945، وبين حريق القاهرة سنة 1952، كان حزب الوفد الليبرالى يميل لجناحه اليسار. لقد زالت أسباب معاهدة 1936 (معاهدة التحالف والصداقة المصرية البريطانية) بانتهاء الحرب العالمية، وحان وقت الاستقلال التام، كان هذا الشعور الشعبى الطاغى. ولقد ارتفعت تكاليف الحياة بسبب الحربين العالميتين وبسبب الكساد الاقتصادى العالمى الكبير فى ما بينهما، وبسبب فساد الملك والسياسيين الموالين له، وزاد عدد المعوزين ثلاثة أضعاف ما كانه فى بداية الحرب العالمية الأولى. هذا الاتجاه يسارا زاحم «أدعياء الوطنية» فى ملعبهم، وقدم لهم، فى نفس الوقت، خدمة العمر. كيف؟ لقد ألغى الباشا، مصطفى النحاس، معاهدة 1936 وقال مقولته الشهيرة والعميقة، «من أجل مصر وقعت المعاهدة ومن أجل مصر ألغيتها». فأزال عن «الوفد» شبهة أنه يدور فى فلك الاحتلال. كما اتخذ خطوات فى اتجاه العدالة الاجتماعية، واعتمد سياسة واضحة فى الدفاع عن حق الشعب فى مقاومة الاحتلال بالقوة. لكنه فى هذا الصدد ارتكب أيضا خطأ عميقا أشرت إليه فى بداية السلسلة. لقد كان قرار السماح للمدنيين بارتداء الملابس العسكرية، وبجباية «تبرعات» من أجل المجهود الحربى، سلاحا ذا حدين. من ناحية ساعد الفدائيين، وصعَّب مهمة إلقاء القبض عليهم. هذا أثره الإيجابى. لكنه، من الناحية الأخرى، كان تنازلا عن المهنية من جانب «الوفد». أقصد مهنية رجال الشرطة. وفتح الباب للتصرفات الفردية غير المحسوبة التى يدفع الجهاز كله ثمنها. وسمح لأبناء الأغنياء من الاشتراكيين بشراء ولاء أفراد من الشرطة لم تكن «الوطنية» دافعهم. وسمح بتقسيم المجتمع إلى وطنيين ومنقوصى الوطنية، والأخطر أن هذا التقسيم تم بناء على رؤية الميليشياويين، والجماعات الكارهة للدولة نفسها، والتى لا تتمتع بشعبية انتخابية حقيقية، من أمثال جماعات أحمد حسين المتعاقبة (حزب مصر الفتاة 1929، ثم الحزب الوطنى القومى الإسلامى 1939، ثم الحزب الاشتراكى أواخر الأربعينيات) وميليشياته المسماة بالقمصان الخضراء. ومثل جماعة الإخوان المسلمين وتنظيمها السرى، الذى لم يتورع عن قتل قضاة وسياسيين ووجوه عامة، رأى أنهم يمثلون خطرا على «الدعوة». لقد كان الجوهر إسقاط الدولة لصالح دولة تتحكم فيها نخبة باسم الدين أو الوطنية، ولا يسمح للناس، للشعب، للبشر، بالتصويت قبولا أو رفضا لهم. ذكرت فى المقال السابق أن «الوفد» حصل على 288 مقعدا من أصل 319 فى انتخابات 1950. الآن أذكر أن الحزب الاشتراكى، حزب أحمد حسين، حصل على مقعد واحد. شغله إبراهيم شكرى، الذى صار لاحقا رئيسا لحزب العمل الاشتراكى، الذى تحول إلى حزب العمل الإسلامى. وتفكرى يا مؤمنة فى دورة حياة السلطوية المصرية! وهنا نعود مرة أخرى إلى ما حدث فى 26 يناير 1952، لنسأل أنفسنا: ماذا كان غرض التحريق والتخريب إذن؟ وهل من دليل سياسى على ذلك؟