استكمالا لإطلاق صيحات التحذير خوفا من الوصول إلى مرحلة الانفجار، الذى هو أسوأ مصير يمكن أن يحدث، ليس لمصر فقط لكن للمنطقة بأسرها، فأنا أؤكد مرة أخرى أننا جميعا نسعى لاجتنابه. القوى الوطنية المدنية المعارضة لسياسات النظام قبل المؤيدة له، الفرق أن المعارضين يرون السبيل لتفادى الانفجار هو إبراز الأخطاء لمعالجتها ودق نواقيس الخطر قبل حدوثها، كما فى أى ديمقراطية حقيقية فى العالم، بينما المؤيدون يرفعون شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ويرفضون انتقاد النظام، بل ويشوهون من يعلو صوته بالتحذير، كما فى كل ديكتاتوريات العالم، بما فى ذلك تجاربنا نحن السابقة، التى يبدو أننا لم نتعلم منها شيئا. أنا هنا سأشير إلى بعض المقدمات الخطيرة التى أراها تدفع بالبلاد وبسرعة إلى هذا الانفجار المشؤوم، وقد آثرت ترك المقدمات التى تمس الوضع السياسى، رغم أهميتها، للمقال القادم، فأنا أدرك أن كثيرين من القراء الأعزاء يظنون أن جل ما يؤرق الشباب هو رفضهم القمع السياسى، الذى لا يمثل أولوية عند المواطن المصرى، لذلك سأعطى الأولوية هنا للمقدمات الاقتصادية والاجتماعية. تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية هو دائما المحرك الأول لأى غضب شعبى، ورغم بعض الإنجازات على صعيد منظومة التموين، فإن المقياس الأهم هو مستوى دخل الفرد، إن لم يزد ذلك فلن يشعر المواطن بتحسن حقيقى فى وضعه المعيشى، خصوصا إذا واكب ذلك ارتفاع مضطرد فى الأسعار، كالذى نعايشه الآن، والمرشح لمزيد من الارتفاع بعد تخفيض الدعم. وفى ظل السوق الحرة التى تحكمنا، لا نتوقع أن يتحسن الدخل إلا مع زيادة فى الاستثمار، لكن الأزمة أن المناخ الجاذب للاستثمار مرهون بالأوضاع السياسية والاستقرار السياسى الداخلى والإقليمى، وليس فقط الوضع الأمنى. وأنا هنا أستدعى ما قاله لى الاقتصادى المصرى الفذ محمد العريان فى أحد اتصالاتى التليفونية معه بأن الشرط الأساسى الأول لأى تنمية واستقرار اقتصادى هو الاستقرار السياسى. ولا أعتقد أنا شخصيا أننا قريبون من ذلك فى الوقت الحالى. كما أن التركيز على مشروعات قومية كبرى لن نرى مردودها الاقتصادى فى الوقت القريب لن يزيد المواطن إلا تشككا فى فاعلية النظام وقدرته على تحقيق ما وعد به فى ما يخص المستوى المعيشى للفرد. أضف إلى ذلك ازدياد الفجوة بين الطبقات والترويج لسياسة التبرعات والصدقات كسبيل وحيد لسد هذه الفجوة، مع غياب كامل لرؤية اقتصادية واقعية لرفع مستوى الخدمات الأهم التى تقدمها الدولة، كالصحة والتعليم لتصل بالمواطن إلى الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية التى طالما حلم بها وثار من أجلها. أما العنصر الثانى الذى يزيد الأوضاع اشتعالا، فهو عودة وزارة الداخلية إلى كثير مما عهدناه منها من ممارسات فى ظل نظام مبارك، فما نسمعه بشكل متزايد من انتهاك لحقوق المواطنين فى أقسام الشرطة، وما قرأناه فى تقرير المجلس القومى لحقوق الإنسان من تجاوزات موثقة، لهو أبلغ دليل على أن وزارة الداخلية لم تستوعب درس ثورة يناير على الإطلاق، فاختيارنا يوم 25 يناير وتفاعل الناس معنا فى الشارع فى هذا اليوم بالذات، ورفعنا شعار الكرامة الإنسانية فى هتافاتنا لم يكن إلا صرخة من المواطن المصرى، الذى فاض به الكيل من ممارسات داخلية مبارك. وأنا هنا لا أتكلم عن القمع والتنكيل الذى يتعرض له النشطاء والمسيسون، بل عن المواطن المصرى الذى لا ظهر له ولا سند، الذى يتعامل مع أفراد الداخلية بشكل يومى، وتفهمه التضحيات التى يقدمها أفراد الداخلية فى معركتنا مع الإرهاب لن يصمد طويلا أمام الاستمرار فى امتهان كرامته. هؤلاء كانوا وقود ثورتنا السلمية، وهم أيضا وقود أى انفجار قد يحدث فى المستقبل. أما إذا اكتفت الداخلية بسيناريو أن ثورة يناير مؤامرة، كما تروج أبواقها وتجاهلوا دوافعها الحقيقية، فليعلموا أن الثمن المرة القادمة أفدح بكثير، وكلنا لخاسرون. العامل الثالث الذى هو بمثابة البنزين بجانب النار هو حالة الانقسام المجتمعى والخطاب الفاشى الذى يسود المجتمع حاليا، فنحن لم نتوقف عند مجرد عدم قبول الآخر فحسب، بل تطور الخطاب إلى «واقتلوهم حيث ثقفتموهم»، ومن كل الأطراف، وهى ربما المرة الأولى فى تاريخنا المعاصر، التى يصل فيها المجتمع المصرى إلى هذه الدرجة من الاستقطاب، ومع التأكيد على انحيازنا جميعا ضد الإرهاب، لكن محاربة الإرهاب بالقتل المباشر فى الشوارع والشقق دون تحقيق، إنما يدخل ذلك فى إطار جرائم العنف التى تدفع بمزيد من الشباب إلى أحضان الجماعات الإرهابية، واستمرار دائرة العنف!! إذا وصلنا إلى هذه المرحلة من استسهال إراقة الدماء، مع تعالِى صوت خطاب إعلامى فاشٍ يروج له ويدفع فى اتجاهه، هو بالمناسبة الوجه الآخر للخطاب التكفيرى الذى بثته القنوات الدينية التى تم منعها، فنحن نؤهل المجتمع ككل لعنف لم نعهده فى تاريخنا بأكمله. تميز الشعب المصرى دومًا عن باقى شعوب المنطقة بكرهه العنف وإسالة الدماء، وهو ما حافظ على وحدة الكيان المصرى وسط كل المصاعب التى واجهناها خصوصا فى الفترة الأخيرة، أما وأن نفقد الآن ذلك الحس الحضارى أمام هذا الجنون الغوغائى، فقل علينا جميعا السلام.