رحم الله نجيب محفوظ الذى قال «آفة حارتنا النسيان»، والأكثر صحة، أن حارتنا المصرية والعربية مكدسة بالآفات، فليس النسيان بالضبط هو مقصد نجيب محفوظ، ولكن التجاهل والتغاضى والتجاوز والتضليل والتزييف، كل هذه وغيرها آفات تسعى فى حارتنا بقوة، وأحيانا بزهو. وعندما احتفلت الحياة الثقافية والأدبية والصحفية والمصرية بعيد ميلاد نجيب محفوظ الخمسين، قال: «اثنان ساهما فى التعريف برواياتى، وبشكل واسع للقراء، أنور المعداوى، وسيد قطب»، وظل نجيب محفوظ يردد هذه المعلومة طوال حياته، مع إبداء أسفه وحسرته على التحول الدرامى والمدهش لسيد قطب. وللأسف كتب كثيرون فى مطلع الستينيات عن هذه المعلومة مع إسقاط اسم سيد قطب، وأبرزهم الدكتور عبد الحى دياب، وهذه فوبيا تصل إلى حدّ المرض، وتحالف الفريقان الضدان لإخفاء الجانب العلمانى والدنيوى لسيد قطب، أقصد جماعة الإخوان، والتيارات الديمقراطية، واختصروه فى السنوات العشر الأخيرة من حياته، وبالتحديد فى كتابه «معالم على الطريق»، رغم أن هذا الكتاب لم يكتبه قطب وحده، بل شارك فى كتابته مجموعة من صقور الجماعة الذين كانوا موجودين معه فى السجن، وأى دراسة مقارنة أوليّة بين أسلوبية كتاب «المعالم»، وكتاباته الأخرى، سيكتشف الفروق الواضحة بين الأسلوبين. والفترة التى نقصدها هى فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى، وهى التى كتب فيها أشعاره الغزلية، وكتاباته النقدية عن طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم وعبد القادر حمزة ونجيب محفوظ وعادل كامل وغيرهم، ثم كتب مذكراته «طفل من القرية»، و«التصوير الفنى فى القرآن»، وأهدى أحد كتبه إلى الدكتور طه حسين، وكتب روايتيه «أشواك» و«المدينة المسحورة»، والرواية الأولى تعتبر شبه سيرة ذاتية، وهى تتحدث عن قصة حبه الفاشلة، وخيانة حبيبته له، وفى الرواية يكتب عن السينما والبارات التى كان يتردد عليها بطل الرواية، والرواية الثانية «المدينة المسحورة»، وقد صدرت عام 1945 عن سلسلة «اقرأ» التى أسسها طه حسين، تقوم على مرتكزين أساسيين، وهما الحياة المصرية القديمة، ثم عالم ألف ليلة وليلة، وهذان المرتكزان أشد أعداء الإسلام السياسى المتطرف، والمدهش أننى عندما نشرت رواية «أشواك» فى عام 2011، هاجمنى الطرفان، واعتبر بعض المرضى من المترصدين، أننى نشرت الرواية كعربون محبة لجماعة الإخوان الفاشية، رغم هجومى الذى لم ينقطع على الجماعة وتاريخها. أما الجماعة فموقفهم معروف من تراث سيد قطب النقدى والعلمانى، وبالأخص رواية «أشواك»، وهناك تصريح لشقيقه محمد قطب، بالسماح بنشر تراث سيد قطب ما عدا هذه الرواية، التى يعتقد أنها تسىء إلى قطب من الناحية الاجتماعية، وأؤكد أن تعرّفنا على تاريخ وأفكار سيد قطب على مدى حياته كلها، لن يجعله لغزا أمامنا، وهذا ما فعله كثير من الأساتذة الأفاضل مثل شريف يونس ومحمد حافظ دياب وعلى شلش وحلمى النمنم وآخرين. وفى 25 يوليو عام 1938 كتب سيد قطب مقالا فى مجلة «الرسالة»، عن رواية «سارة» لأستاذه عباس محمود العقاد، وكان قطب يعتبر العقاد أستاذه الأول، وقد خاض من أجله معارك شرسة، أضير من جرائها سيد قطب، وكان هذا هو المقال رقم 13 فى سلسلة مقالات كان يردّ بها سيد قطب على الأديب محمد سعيد العريان، وقد كان العريان ينشر كتابا متسلسلا فى المجلة على مدى شهور عن الأديب مصطفى صادق الرافعى، وعندما تعرض العريان للعلاقة بين العقاد والرافعى، وانحاز العريان بشكل واضح إلى الرافعى، انبرى سيد قطب مدافعا عن أستاذه العقاد، ودخل فى هذه المعركة مجموعة من الكتّاب على رأسهم المحقق محمود محمد شاكر، والأديب محمد الغمراوى، والكاتب على طنطاوى وغيرهم. وفى سياق تلك المعركة كتب سيد قطب عن علاقة الدين بالأدب، لأن مهاجمى أو محاورى سيد قطب اعتبروه من أهل النار، وأنه من المجدفين، ورفعوا فى وجهه راية الدين لكى يخيفوه كما كتب قائلا: «الدين.. الدين.. هذه صيحة الضعيف، يحتمى بها كلما جرفه التيار، وهو لا يملك من أدوات السباحة ولا وسائلها شيئا.. وأشد الجناة على الدين، وأشد المشوهين له والمشككين فيه، أولئك الذين يضعونه مقابلا للعلم تارة، وللفن تارة، ثم يحكمون أيهما أصح وأولى بالاتباع!» «وللدين مهمة قام بها وأداها خير أداء فى إصلاح نفس الفرد للمجتمع، وفى تهيئة المجتمع لحياة الفرد، بالنصح تارة، وبالتخويف تارة، وبالتشريع تارة، وبكل الوسائل التى تكفل هذه الغاية الكبيرة على مدى الأجيال». ويعود قطب إلى تأكيد أن الدين ليست له علاقة بالعلم أو بالفن، فيكتب: «ولم يأت الدين ليخوض فى المسائل العلمية البحتة، ولم يأت ليكون منهاجا فنيا، فكل زج به إلى الميادين التى لم يأت لها، ظلم له، وتعريض به، وعمل كعمل الدبة التى تحدث عنها صاحبنا الحديث المحفوظ». وبعدما يضع فرقًا أساسيًّا بين الدين الذى يقوم على الإقناع الوجدانى والعقلى، والعلم الذى يقوم على المشاهدات والملموسات، والتجارب المحسوسة، يتحدث عن ابتعاد الدين عن الفنون قائلا: «وليس من الحكمة كذلك وضع الدين مقابلا للفنون، فهذه خاصة بالترجمة عن النفس الإنسانية وأحاسيسها وآمالها، وليس هذا من اتجاهات الدين، إلا فى الدائرة التى تهمه لإصلاح نفس الفرد للمجتمع والمجتمع للفرد، على طريقته الخاصة…». ثم يصرخ: «الدين.. الدين.. قولوها مئة مرة، فلسنا والحمد لله ممن تخيفهم هذه الصيحات الفارغة»! هذا بعض ما قاله سيد قطب، ولا تريد الحياة الثقافية والسياسية والفكرية، الكشف عنها، وتم حبسه واختصاره فى مرحلة وكتاب واحد، وتجاهل بقية مراحله وكتاباته التى تساعد على فهمه وفهم تاريخنا بشكل أفضل.