نستكمل اليوم عرض أجزاء من كتاب"الحقيقة والوهم في الحركة الإسلامية المعاصرة" للمفكر المصري الكبير د.فؤاد زكريا الذي يؤكد "أن العنف ليس ظاهرة طارئة على الجماعات الإسلامية المتطرفة، وإنما هو شئ ينتمي إلى تركيبها ذاته، وهو جزء لا يتجزأ من تكوينها الذهني والنفسي، وهو وسيلتها الوحيدة لتحقيق أهدافها في المجتمع. إن أساس هذه العقلية هو الطاعة المطلقة، والشجاعة الفائقة التى توجه حسب الاتجاه الذي يملى عليها، لا الذي تختاره هى بوعيها وفكرها التحليلي. إن الإيمان هنا يصل إلى حد التخدير العقلي شبه الكامل، فعضو الجماعة رُوض على الطاعة وتكون عقله بحيث يسمع، ويصدق، ويأتمر، ولا يناقش". ونبهنا إلى خطورة "شيوع ظاهرة التكفير عندهم، وسهولة إطلاق هذا الوصف. فالدولة في هذا العصر "كافرة"، ومن لم يحكم بالشريعة الإسلامية ويطبق حدودها "كافر"، بل إن المسلم الذي لا يسايرهم في تفسيراتهم هو في بعض الأحيان "كافر". وأن هذه الصفة ليست، في الإطار الفكري لهذه التنظيمات، شيئا هيناً على الإطلاق. فهي لا تعبر عن معارضة أو استنكار أو نقد عقلي فحسب، بل إنها إدانة كاملة، وإحلال للدم والمال، و"محو" من الوجود. وكل من تلصق به هذه الصفة ينبغي استئصاله، والغاؤه، وإخراجه من مجال الفكر والواقع. فالتكفير حكم بالإعدام، يتخذ طابعا معنويا طوال الوقت الذي لا تكون فيه القدرة على تنفيذه الفعلى متوافرة، ولكن بمجرد أن تكتمل هذه القدرة يصبح تنفيذه أمرا ضروريا، ويتم تطبيقه عمليا بكل هدوء نفس وراحة ضمير، لأنه يصبح عندئذ واجبا دينيا، ومثوبة في الدنيا ومدخلا إلى الجنة في الآخرة". نسمع هذه الأيام بعض المشايخ يتحدثون عن "النصارى الكفار"، وهو قول في منتهى الغرابة. فالكفر بالله هو عدم الإيمان به، والنصارى مومنون بالله! فكيف يكون المرء كافراً ومؤمناً في الوقت ذاته! إن اجتماع صفتين أو لفظتين متناقضتين في كلام بعض مشايخ الفضائيات أصبح شيئاً دارجاً! لقد صدق د.فؤاد زكريا رحمه الله عندما قال:"إن أكبر ما يلحق الضرر بالدعوات الإسلامية المعاصرة، على اختلاف دروبها واتجاهاتها، هو حالة الجهل التي تنشرها بين أنصارها، والأدهى من ذلك أن هذا الجهل يبدو لأصحابه علما واسعا يرد على جميع التساؤلات ويبدد كل الشكوك. وهذا الجهل يتبدى في نقصان الثقافة العامة وعدم الإلمام بحقيقة المذاهب التي يقفون منها موقف العداء، وانتقال العبارات المحفوظة والقوالب الجاهزة من جيل إلى جيل، ومن مستوى أعلى فى التنظيم إلى مستوى أدنى، إلى أن تسري بين الجميع مسرى الحقائق المطلقة التي لا تقبل جدلا أو مناقشة. ولا سبيل إلى خروج الدعوة الإسلامية المعاصرة من إسار الجهل هذا إلا باتباع منهج مخالف، لا تكون فيه الدعوة تدفقا من طرف مرسل إلى طرف مستقبل يتلقها في سلبية خالصة، بل تكون حوارا نقديا مبنيا على اطلاع ومعرفة وفكر مستنير. أما أولئك الدعاة الذين يفتتن بهم الناس، فيصلون في ثقتهم بأنفسهم إلى حد الاعتقاد بأن لديهم معرفة موسوعية تتيح لهم إصدار الأحكام في كافة الميادين، فلنتأمل ما يقولون بفكر واع متيقظ، ولنحذر الانقياد إلى كلماتهم المعسولة، فقد يكون وراءها ضرر بالغ بحياتنا ومستقبلنا". يكفينا هنا أن نعرض بعض ما قاله المنتمون إلى تيار الإسلام السياسي في الشهور القليلة الماضية ليتبين لنا مدى جهلهم بما يتحدثون عنه وفي الوقت ذاته مدى خطورة رسالتهم على مستقبل مصر والمصريين. لسنا بحاجة إلى التدليل على ذلك، فالأمثلة يصعب حصرها، لعل أكثرها جهلا وغرابه ما قاله الداعية حازم شومان فى خطاب له بأحد المساجد "دولة مدنية يعني أمك ما تلبس حجاب"، وأن الليبرالية "يعني أي حد يحكمنا إلا الإسلام"، كما تعني "مفيش حاجة اسمها راجل وست". وما أكده الداعية د. وجدي غنيم أن إعصار ساندي الذي ضرب أمريكا كان "سببه غضب الله على أمريكا بسبب الفيلم المسئ للرسول". والقارئ للبرنامج الانتخابي للشيخ حازم أبو إسماعيل سيجد فيه كثيرا من المضحكات المبكيات، يكفينا هنا أن نذكر:"أننا لو وضعنا قش الرز على روث الحيوانات سيولد غاز البوتجاز، وأن المخلفات الناتجة عن هذه العملية تعد سمادا أقوى من الأسمدة العادية!" هكذا بكل بساطة!! أي كلام علمي هذا؟ بالله عليكم، أهكذا يمكن للمسلمين أن يتقدموا على من سبقوهم بمراحل في كل المجلات!! وأخيرا قال د.فؤاد زكريا بالحرف وكإنه يقرأ من صفحات واقعنا بعد ثورة 25 يناير:" يبدو أن بلادنا أصبحت الآن أمام خيارين كليهما أتعس من الآخر: فإما أن نكتفي بفكر متقدم مستنير قادر على الفهم والنقد والتحليل، ولكنه عاجز عن الحركة، وإما أن نسير وراء فكر متخلف، قاصر في فهمه ونقده وتحليله، ولكنه هو وحده القادر على التحرك. لقد أصبح المأزق الحقيقي الذي تعاني منه مصر، في تطلعها إلى المستقبل، هو اضطرارها إلى أن تختار بين فكر بلا فعل، وفعل بلا فكر. وأحسب أنه لن يكون لنا الخلاص إلا في اليوم الذي يصل فيه الذين يفكرون إلى المستوى الذي يتيح لهم أن ينقلوا فكرهم إلى حيز الفعل المؤثر والفعال، أو يصل الذين يفعلون إلى المستوى الذي يدركون فيه قيمة الفكر المتفتح والعقل المستنير". ليت هذا اليوم يأتي سريعاً. رحم الله الدكتور فؤاد زكريا واسكنه فسيح جناته فقد رسم بحق طريق النهوض بالمسلمين، وهو الخلاص من الخرافة ورؤيه الواقع وتطبيق جوهر الدين بأعمال العقل البشري وليس التمسك بالشكليات.