أن يتم إعلان موعد انتخابات مجلسى الشعب والشورى ليلة اجتماع الفريق سامى عنان مع رؤساء ومسؤولى سبعة وأربعين حزبا (لا تنزعج من عدد الأحزاب فقد تجاوز التسعين فى تونس)، فهذا يوحى بأن الفريق عنان أو بالأحرى المجلس العسكرى أراد أن يرسل إلى المدعوين للاجتماع رسالة مفادها أن الموضوع محسوم، فليس أمامنا وقت والموعد محدد ومن ثم فليبلع الجميع ملاحظاته عن موعد الانتخابات فلا سبيل لتغييره، وربما المسموح به (إن سمح) هو عدة تعديلات محدودة ذرا للرماد فى العيون أو تغييرا فى أحجام ومساحات الدوائر وإعادة تقسيم بعضها استكمالا لشكل الحوار وإبداء ما يحبون أن يطلقوا عليه وصف المرونة، إذا لم يخرج علينا اجتماع الفريق عنان بمعجزة تغيير القانون من مختلط إلى قائمة فقط أو حتى فردى فقط، فنحن حتى هذه المعجزة أمام أمر واقع.. خلاص! القانون فى حالته -حتى ساعته وتاريخه- فى منتهى التعقيد والتشابك، وطريقة إجراء الانتخابات صعبة وغامضة، وتقسيم الدوائر عبثى وملخبط، والتداخل بين الانتخاب بالقائمة وبالفردى معا سيجعل تحديد الفائزين وحساب أصواتهم ومقاعدهم يخضع لعشرات التفاصيل القانونية وعمليات حسابية تفتح نوافذ (لا أقول أبواب) التأويل (لا أقول التشكيك) فى النتائج وربما اللجوء إلى المحاكم! هذا صحيح وأكثر.. ألعن! لكن إذا نفذ السهم وأعلنوا عن تاريخ فتح باب الترشيح وتحدد موعد الانتخابات بهذا القانون أو تعديلاته، فإما أن تشارك وإما أن تقاطع! طبعا المقاطعة فى منتهى السهولة والمنطقية كذلك، فمن يفرض عليك المشاركة فى انتخابات لم تشارك فى وضع قانونها ولا شكلها ولا ترضى عن كل تفاصيلها؟ لكن لا تنس أن هذا البرلمان الناتج عن نتائج الانتخابات التى ستقاطعها سيحدد صياغة الدستور (باختياره لجنة صياغته) وسيكون آلة التشريع لكل القوانين التى ستحدد شكل مصر ومستقبلها فى السنوات القادمة! تذكر فقط وأنت تقاطع ما الذى تقاطعه! شباب كثير يرى نفسه خارج ثقافة الانتخابات ولعبتها وألاعيبها وأدواتها وأموالها، فيقرر أن يكرهها ويرفضها أو يوجه توتراته وانفعالاته ضد الذين قرروا دخول المعركة براءة فى النية أو إبراء للذمة! طبعا أنا مقدر الغرام بحالة الرفض والتذمر من سوء إدارة الثورة.. ومحترم تماما الحنق المتحمس من شباب «الفيسبوك» و«التويتر» على المجلس العسكرى والمحاكمات العسكرية ولا أطلب من أى واحد منهم التراجع عن مواقفه ملليمترا واحدا متى ظل مؤمنا بصحة اعتقاده، ولا حتى أطالبهم بالاهتمام بالانتخابات وليمضوا جميعا فى اندفاعهم النبيل للدفاع عما يعتقدونه ساخرين ومتهكمين ومتظاهرين مصممين ومخلصين.. لكن ليسمحوا للبعض الآخر بالدفاع عن الأحلام الثورية فى صناديق الانتخابات! أما الذين قرروا الخوض فى العملية الانتخابية لإدراكهم أن البرلمان القادم هو أخطر برلمان فى تاريخ مصر فقد أصبحوا مطالبين الآن بأن ينزلوا معنا إلى الواقع... وإلا سنغرق! وهنا تبدو إشارات مرور مهمة للعبور.. الثورة شىء والسياسة شىء آخر، الأولى تحلم والثانية تتعامل مع واقع، الأولى تحلّق والثانية تمشى على الأرض، الأولى تنطلق من قيم والثانية تنطلق من مصالح. إن الانتخابات هى أكثر وسائل السياسة واقعية وعملية ومناورة ومراوغة ولفا ودورانا، وانتهازية إن لزم الأمر، وحتى الآن لم نشهد أى انتخابات على كوكب الأرض يتم إدارتها بأخلاقيات ملائكة فى سماء الكوكب. جمهور الثائرين غير جمهور الناخبين، الأول غاضب والثانى شاكك، جمهور الثورة يشارك معك، جمهور الانتخابات يحكم عليك. جمهور الثورة يريد أن يسمعك، أما جمهور الانتخابات فيطالب بأن تسمعه. جمهور الثورة يمشى وراء الأهداف، جمهور الانتخابات يمشى وراء الوعود! إن التحالفات فى الانتخابات مع خصومك فى الأفكار والمتناقضين معك فى الأهداف بل وحتى «كارهينك وكارههم» شخصيا موضوع طبيعى جدا من الصعب استنكاره.. الثوار غالبا يفشلون فى الانتخابات لأنهم يتخيلون أن الثورة لا تحتاج إلى تصويت ولا يمكن أن تلجأ إلى تنازلات وأن مناقشة جدوى وأهداف ونجاح الثورة عدوان عليها، ولهذا لم نعرف ثوارا ذهبوا يوما إلى صناديق الانتخابات بل هناك عداء جيناتىّ بين الثورة -فى مراحلها الأولى على الأقل- والانتخابات، والنموذج الأوضح لنا هو ما جرى فى ثورة 1919، فقد عارض سعد زغلول تحويل الوفد إلى حزب، ثم عارض صياغة دستور 1923، ثم عارض دخول الانتخابات، وتصرف فى كل هذا كثائر، لكنه حين تحدد موعد الانتخابات دخل كحزب وكسب كمرشح وكان ذلك بعد نحو خمس سنوات من الثورة! إن الثورة زيت، والسياسة (وفى قلبها الانتخابات) ماء، من هنا تبدو أهمية أن يدرك المؤمنون بثورة يناير أنهم ملزمون باستخدام أدوات السياسة والانتخابات للدفاع عن قيم وأهداف ثورتهم، وإلا خسروا الثورة.. وطبعا سيخسرون السياسة. ثم إننا جميعا لا نحتمل خسارة الانتخابات.. وهذه الانتخابات تحديدا!