■ كيف تعامل صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الفتن التى وقعت فى حياتهم؟! 1- منع الخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان، أصحابه من قتال أهل الفتنة والبغى الذين حاصروه فى داره، والذين ساروا وراء الأكاذيب التى روج لها الفتّانون، طاعنين فى أمانة وعدالة الخليفة، ساعين لإسقاط شرعيته، وعزله من منصبه، بل وقتاله وقتله! وعلى الرغم من أن عثمان يعلم أنه على الحق، وأن هؤلاء قوم فتنة، يحق له شرعا أن يقاتلهم، خصوصا بعد أن استجاب إلى بعض مطالبهم، وبين لهم ما هم عليه من باطل، فإنه «لزم بيته» ورفض الخروج إليهم لمقاتلتهم هو وأصحابه، حتى لا تُسفك دماء المسلمين من أجل نفسه، فتكون «فتنة»! فما كان منه إلا أن ضحى بدمائه هو من أجل حقن دماء المسلمين، وذلك حين تمكن البغاة من اقتحام داره وقتله، فى ما عُرف ب(يوم الدار). 2- وحين بُويع سيدنا علىّ بن أبى طالب بالخلافة بيعة شرعية، رفض سيدنا معاوية بن أبى سفيان مبايعته، إلا بعد أن يقتص من قتلة عثمان أولا! ولكن عليّا أوضح له وللمسلمين، أنه لا بد من أن يستتب له الأمر أولا كخليفة للمسلمين، حتى يتمكن من اقتفاء أثر قتلة عثمان، بعد أن فروا إلى الأمصار، ومحاكمتهم محاكمة عادلة. خصوصا أن قتل عثمان قد أحدث فتنة بين الناس وهرجا ومرجا، وعلىّ لا يريد أن يتفرق شمل المسلمين أكثر بعدم وجود خليفة يجتمعون عليه ليتولى أمرهم فى ظل هذه الفتنة العصيبة! لكن معاوية أصر على رفضه مبايعة علىّ، فما كان من علىّ إلا أن قرر قتال معاوية، لخروجه على بيعة المسلمين لخليفتهم الشرعى، حتى لا يتفرق أمر المسلمين فتكون «فتنة»! وكان من أنصار علىّ سيدنا عمار بن ياسر.. ومن أنصار معاوية، سيدنا عمرو بن العاص.. فكانت معركة (صِفِّين). وبين هذين الفريقين المتقاتلين، ظهر فريق ثالث من الصحابة رفض المشاركة فى هذا القتال، لأنهم رأوا فى قتال المسلمين بعضهم بعضا «فتنة»، بغض النظر مَن مِن الفريقين على الحق ومن على غيره! وكان من هؤلاء سيدنا عبد الله بن عمر بن الخطاب، وسيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص. 3- ولما تولى سيدنا الحسن بن على بن أبى طالب الخلافة ببيعة شرعية، بعد استشهاد أبيه على يد الخوارج، فى ظل معركة (صِفِّين) وقضية (التحكيم)، طالبه بعض أنصاره بمواصلة القتال ضد معاوية.. وعلى الرغم من علمه ويقينه أنه قادر على مواصلة القتال وانتصاره على معاوية، فإن الحسن كره ذلك، لأنه كان يرى فى قتال المسلمين بعضهم بعضا «فتنة»، فما كان منه إلا أن عقد الصلح مع معاوية، وتنازل طواعية بغير إكراه عن الخلافة التى أتته ببيعة شرعية، وتركها ل(معاوية)! فحقن بذلك دماء المسلمين، ووحدهم وجمعهم على إمام واحد، حتى عرف هذا العام ب(عام الجماعة)، فقضى على «الفتنة» التى دامت بين المسلمين طويلا، وحقق الحسن بذلك نبوءة جده عليه الصلاة والسلام، حين أشار إلى أن الحسن وهو لا يزال صغيرا، وقال للناس: (إن ابنى هذا سيد، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين). 4- وحين سُئل سيدنا عمر بن عبد العزيز عن رأيه فى الفتنة التى وقعت بين على ومعاوية، قال: (هذه «فتنة» عصم الله منها دمائى، فلأعصم منها لسانى)! أى: أنه لم يكن موجودا فى زمن الفتنة، فلم تسل فيها دماؤه، «فليمسك لسانه» عن الحديث فيها، خشية أن يتعرض بالإساءة لأحد من صحابة رسول الله. 5- ومثله فعل الإمام أحمد بن حنبل، حين سُئل عن هذه الفتنة، فتلا على سائله قول الله عز وجل: (تلك أُمَّةٌ قد خَلَتْ، لها ما كَسبت ولكم ما كسبتم، ولا تُسئلون عما كانوا يعملون). ■ وما كان حديثنا عن هذه الفتن، إساءة لأحد من صحابة رسول الله، فللصحابة قدرهم، فهم الذين قال عنهم رسول الله: (إيّاكم وصحابتى، فوالذى نفسى بيده، لو أنفق أحدكم مثل جبل أُحد ذهبا، ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفه)! فهم الذين حملوا إلينا هذا الدين، ولاقوا فى ذلك ما لاقوه من المشقة والعنت، حتى يصل إلينا فنهتدى به.. وإن اختلفوا -فاجتهد أحدهم، فأصاب أو أخطأ- فقد اتفقوا فى حسن نواياهم وابتغائهم الحق.. وفى النهاية أمرهم إلى الله، لا إلينا! فهم جميعا أسيادنا.. رضوان الله عليهم أجمعين. ■ وإنما ذكرنا هذه الفتن، تسليطا للضوء على أولئك النفر من الصحابة والتابعين الذين «لزموا بيوتهم» فلم يشاركوا فى أحداث الفتنة.. و«أمسكوا ألسنتهم» عن أحاديث الفتنة، تنفيذا لوصايا رسول الله، فى حديثه لعبد الله بن عمرو بن العاص، إذ ذكر الفتنة فقال: (إذا رأيت الناس قد مرجت عُهودهم وخَفَّت أماناتهم، وأصبحوا هكذا، وشبك بين أصابعه.. فالزم بيتك، واملُك عليك لسانك، وخذ بما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بأمر خاصَّة نفسك، ودع عنك أمر العامة).. وقد شرحنا ذلك الحديث فى مقالنا السابق: (فُوكَّك!) ودلوقتى...عرفت ليه قولتلك: فُوكَّك؟!