فقد قادة الإخوان المسلمين صوابهم، وصدَّقوا الكذب الذى يرددونه صباح مساء، حتى أصبح الكذب لديهم ركنا من أركان عقيدتهم. كانوا يشكون من الاضطهاد وتلفيق التهم لعقود، لكن بعد أن تمكنوا من الحكم بأغلبية بسيطة لا تسمح بكل هذا الافتراء، أثبتوا براعة فى هذا المجال تفوق نظام المخلوع بكل أجهزته القمعية والأمنية والدعائية. وإلا كيف يمكن لنا أن نصف كل هذه الخزعبلات التى يرددونها بثقة مدهشة حول مؤامرات وخطط للإطاحة بالرئيس، بل وقيام قادة جبهة الإنقاذ الوطنى بتلقى أموال من الخارج لاقتحام قصر الرئاسة بفرقة مدربة تدريبًا عاليًا، وخطف الرئيس، ثم إعلان هروبه إلى قطر وتنصيب أحد قادة الجبهة بدلا منه؟ أى فيلم هندى هذا، بل أى صنف مضروب بشدة لدرجة تفقد العقل وتصيب صاحبه بالهذيان والجنون؟ إلى أى هاوية تقودنا جماعة الإخوان؟ للأسف كنت طرفا فى النقاش الذى فجره الزميل جابر القرموطى فى برنامجه التليفزيونى مع من وصف نفسه بعضو فى جماعة الإخوان، محمد ياقوت، وكشف فيه عن «مؤامرة العصر» لخطف الرئيس مرسى، مؤكدا أن الرئيس شخصيا، ورئيسه المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين محمد بديع، لديهما تسجيلات وأدلة تؤكد هذه المؤامرة. فى البداية طلبت من الزميل البارع محمد الجارحى، معد الحلقة، أن يتأكد أن هذا الشخص إخوانى بالفعل، وأنه ليس مدسوسًا عليهم وعلى الرئيس لكى يورطهم فى كل هذه الخزعبلات وليؤكد أنهم لا يصلحون للحكم. لكن الطامة أن الرجل، ياقوت، كان يتكلم بجدية وثقة شديدتين. ورغم أننى نعتّه مباشرة بالكذب والافتراء، فإنه لم تهتز له شعرة واستمر فى ترديد تفاصيل المؤامرة التى تضم فى خيوطها تلقى أموال من المرشح الرئاسى السابق أحمد شفيق، ومن ضاحى خلفان مدير شرطة دبى، ومن وزير خارجية الإمارات. أما القوة المسلحة التابعة ل«جبهة الإنقاذ» والمكلفة بخطف الرئيس وإخفائه فتولى تدريبها محمد دحلان، القيادى الأمنى الفلسطينى السابق الذى تلاحقه اتهامات الفساد الآن. بل وأراد ياقوت تأكيد التهمة بأن كشف للمستمعين للمرة الأولى أن اسم «جبهة الإنقاذ الوطنى» الذى أطلقه أصحابها على أنفسهم، هو فى الواقع ليس اسمها الحقيقى، بل إن تسجيلات الرئاسة والإخوان أكدت أن اسمهم هو «جبهة إنقاذ الوطنى» نسبة إلى الحزب الوطنى المنحل. فجأة أصبح الدكتور محمد البرادعى، الحائز على جائزة نوبل للسلام والمدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية، والذى كان أعضاء جماعة الإخوان المسلمين أنفسهم يقومون بجمع التوقيعات دعما لمطالبه بالتغيير الحقيقى فى زمن المخلوع، فجأة كشف لنا ياقوت أنه عضو فى الحزب الوطنى المنحل. وكذلك الحال بالنسبة لمناضل والمرشح الرئاسى السابق حمدين صباحى، والذى خبر جيدا زنازين حسنى مبارك وبهدلته، والأستاذ عمرو موسى وزير خارجية مصر وأمين عام الجامعة العربية السابق، والدكتور محمد أبو الغار رئيس الحزب الديمقراطى الاجتماعى، والأستاذ عبد الغفار شكر رئيس التحالف الشعبى الاشتراكى. كل هؤلاء، وأغلبهم كان يقف فى الصفوف الأولى فى مظاهرات 28 يناير 2011 يتلقى دفعات خراطيم مياه الأمن المركزى بثبات وكذلك الغاز المسيل للدموع، بينما كان قادة الإخوان يفكرون فى المشاركة فى الثورة أو الحفاظ على خط الاتصال القائم مع جهاز مباحث أمن دولة مبارك، كل هؤلاء، وفقا لياقوت، متورطون فى محاولة خطف الرئيس مرسى والإطاحة به. بصراحة حاولت قدر استطاعتى أن أمسك لسانى وأنا أرد على هذه الخزعبلات. المشكلة أننى كنت فى مقر حزب الوفد لحضور أحد اجتماعات جبهة الإنقاذ الوطنى والتى كان يحضرها كل الأسماء التى أشار إليها المدعو ياقوت، تقريبا، بأنهم متورطون فى المؤامرة. ولذلك فلقد كان ردى الوحيد على هذه الترّهات هو: يا سيد ياقوت، توجه بمعلوماتك الخطيرة فى عبثيتها إلى أقرب فرع للأمن الوطنى، وأبلغهم فورا، ونحن سنبقى فى أماكننا ننتظر أمر الاعتقال لتورطنا فى هذه المؤامرة التى لو صدق بعض منها فقط، لكنا جميعا نستحق الإعدام وفقا للقانون المصرى. ما هى حدود الكذب لديكم أيها السادة الكرام يا من تحكمون مصر الآن؟ لو كنا فى دولة تحترم القانون، ويحكمها رئيس يتصرف على أنه رئيس لكل المصريين لما مر كلام ياقوت هكذا مرور الكرام. لكنه مر. قادة الإخوان أدركوا، على ما يبدو، خطورة ما ورطهم فيه السيد ياقوت، وحاولوا التراجع عن تفاصيل المؤامرة بما فيها من استخدام قوة مسلحة من الكوماندوز، وخطف الرئيس، وإعلان هروبه إلى حبيبته قطر، مع تمسكهم فى نفس الوقت بوجود مؤامرة حقيقية للإطاحة بمرسى يعلمها الرئيس نفسه والمقربون منه. ويبقى السؤال حائرا، لماذا لا تكشف أجهزة الأمن المختصة تفاصيل المؤامرة وتقدم المتورطين للمحاكمة؟ لماذا يكون تسريب التفاصيل الخاصة متروكا لقيادات جماعة الإخوان بداية من المرشد مرورا بنائبه خيرت الشاطر وعصام العريان ومحمود غزلان وآخرين كثيرين، وانتهاء بياقوت ومرجان؟ ما لا يدركه قادة الإخوان المسلمين أنهم بهذه الطريقة يحفرون قبورهم بأيديهم، وأن ما تبقى من مصداقية لهم خارج قطاع أعضاء الجماعة يتراجع بسرعة كبيرة. بل أى مصداقية تبقت بعد كل المصائب التى تورطنا فيها منذ تولى الرئيس مرسى الحكم، بداية بفشله فى تنفيذ وعود المئة يوم الأولى، وتدهور الاقتصاد والأمن وزيادة الفقر، مرورا بكل قراراته التى تراجع عنها بعد ساعات أو أيام، والإعلان الدستورى فى 22 نوفمبر الذى ألغى بمقتضاه أبسط قواعد الديمقراطية التى أوصلته إلى الحكم ومنح نفسه سلطات ديكتاتورية، والكذب حول إمكانية تأجيل الاستفتاء على الدستور بدعوى أنه لا يمكن تعديل المادة 60 من الإعلان الدستورى الصادر فى مارس 2011 بينما الرئيس نفسه هو من اقترح تعديل المادة وتمديد عمل لجنة صياغة الدستور شهرين قبل ذلك بأسبوعين فقط فى إعلان 22 نوفمبر المشؤوم. لكن بقيت الطامة الكبرى فى الدفع عمدا نحو التصويت على مشروع للدستور أعده الإخوان بمفردهم ومعهم حلفاؤهم من السلفيين، والاستخفاف باعتراضات المخالفين لهم فى الرأى والقول لهم بأنهم موافقون على ما ورد فى هذه الوثيقة حتى لو أقسموا بأغلظ الإيمان أنهم معترضون، بما فى ذلك ممثلى المسيحيين المصريين. ثم يبدأ التغزل فى تلك الوثيقة التى قسمت مصر ودفعتها نحو الحرب الأهلية والقول بأنها أعظم إنجاز «منذ أن وحد مينا القطرين» على حد تعبير القيادى الإخوانى صبحى صالح. ارحمونا يرحمكم الله، ولا تدفعوا بنا نحو الهاوية وخسارة الوطن بأكمله لإصراركم على أن لديكم صكا للحديث باسم الله والدين الإسلامى، وأن مرشدكم العام هو آية الله المصرى الجديد، والذى هو فى طريقه لتولى منصب خليفة المسلمين، شاء من شاء وأبَى من أبَى.