عندما تقع أحداث كبرى من ذاكرة رئيس فإنها ليست هفوة عابرة. ماسبيرو لم يكن حدثا عابرا. إنها لحظة فارقة فى وعى عمّدته الدماء التى أهدرها ضباط قتلة عندما أصدروا أوامر بقتل المتظاهرين ودهسهم بالمدرعات. عندما ينسى المرسى الإشارة إلى ماسبيرو فى خطابه بينما يرسل تحيات إلى الجيش حامى الثورة ويعيد إنتاج مشهد الجنود الذين يصفقون له فى مدرجات الاستاد، فإنه ينحاز إلى نفس النظرة التى تعادى المطالبة بالحقوق وتنظر إلى الشعب على أنه خلفية مثيرة فى استعراضات تذكِّرنا بكل طغاة العالم. سقطت «ماسبيرو» من خطاب لم ينقصه الملل، بينما هى المذبحة الكاشفة عن احتقار وطائفية «النواة الصلبة» للأقباط إلى درجة أن التليفزيون الرسمى يومها لم يجد حرجًا فى تحريض الأهالى على المتظاهرين ولم يحاسبه أحد. الرئيس أسقط من وعوده محاكمة القتلة. أسقطها لأن معناها تغيير بنية السلطة.. وربما يكتفى بتقديم كبش فداء.. لا مانع أن يكون المشير طنطاوى. .. سألت فى مقالى بجريدة «الأخبار» اللبنانية، قبل عدة أيام: هل سيظهر المشير طنطاوى فى احتفالات أكتوبر؟ لم يظهر طنطاوى، وانتشرت التسريبات أنه ربما يقدَّم ليكون كبش فداء.. لكن هذا لا يكفى، نريد إعادة التوازن فى العلاقة بين سلطة تحمى قتلتها، وشعب يُقتَل مجانًا وتُقام له المذابح كأنه خراف فى عيد التضحية من أجل السلطة. أكتوبر لم يعد شهر الانتصار على إسرائيل فقط فى 1973.. لكنه الشهر الذى داست فيه دبابات الجيش المصرى على مواطنين مصريين. بين سيناء وماسبيرو يبدو المشير لغزًا كبيرًا... أين ذهب؟ وما هذا المصير التعس لآخر قائد من جيل أكتوبر؟ ومَن سيحاسبه على جرائمه من قبل ماسبيرو حتى العباسية..؟ طنطاوى هو العجوز البيروقراطى الذى عاش فى موقعه دون مهارات غير الطاعة والولاء والقدرة على امتصاص الأزمات. عقل بيروقراطى محض بلا علامات تفوق عسكرى أو سياسى، وبشيخوخته لم يكن لديه ما يدافع عنه سوى المكانة التقليدية لمؤسسة السلاح فى دولة «مماليك» معاصرة. المكانة تآكلت ولم يبقَ منها غير مؤسسة بيروقراطية تدير ماكينة كبيرة من المصالح السياسية والاقتصادية، وكما الحال فى البيروقراطيات العجوز، فإنها تبدو حيوانا خرافيا يحتل المساحة الكبيرة، لكنه ليس فعالا بما يناسب الموقع أو الصورة الخرافية التى ترسخت فى أذهان مجتمع عاش سنوات لا يرى من هذه المؤسسة الغامضة إلا الرجل الأحدب الذى كان يجلس بجوار مبارك ولا يبدو منه إلا أنه مثل الأيقونات الصامتة لا تعبر عن شىء شخصى أبدا. عندما ظهر المشير بدت تلك الأيقونات ركيكة إلى حد لا يمكن تخيله، خطاباته كانت نموذجًا لبلادة السلطة وعقلها الفارغ إلا من حيل البقاء. غادر المشير مكتبه فى ظروف غامضة، تليق بحروب الكواليس، لم يعرف أحد هل هو غاضب من إزاحته على يد رئيس إخوانى تحالف مع تلميذه وابنه الروحى الذى كان يجهزه لخلافته فى الملاعب؟ أم أنه فى صفقة أكثر غموضًا يخرج فيها آمنا مقابل عدم محاكمته ليفسح المجال أمام شركة حكم جديدة؟ التخلص من المشير يكاد يكون الإنجاز الوحيد فى ال100 يوم الأولى... وبعيدًا عن الجدل حول ما إذا كان انتصارا فعلا أو تغطية على صفقة الخروج الآمن للعسكر الذين ارتكبوا جرائم كبرى فى المرحلة الانتقالية ولم يحاسبهم أحد أو تتحرك ضدهم دعوى قضائية واحدة. فى حملة التسويق للمرسى بدت إحالة المشير إلى التقاعد إنهاءً لحكم العسكر، وهى مبالغة تشبه مبالغات عبد الناصر فى أننا «سنُلقى إسرائيل فى البحر»، أو السادات حين سمى التخلص من فريق الموظفين فى دولة عبد الناصر «ثورة تصحيح» وهى لم تصحح شيئا. إبعاد المشير والفريق خطوة هامة فعلا ونقلة نوعية فى تركيبة الحكم لكنها ناقصة، لأنها توقفت عند إبعاد الديناصورات العجوز بما يوحى بمجرد تغيير فى الشركاء لا فى عقد شركة الحكم، وهو تغيير غامض لأنه لم يعرف بنود الاتفاق بين المرسى والسيسى ولا حدود حركة قائد الجيوش فى ظل عدم تغيير قواعد الوجود العسكرى فى الدولة المدنية، بداية من آلاف الضباط الذين يديرون مؤسسات مدنية وحتى شركات الجيش التى تملك 40٪ من اقتصاد الدولة وتدار بسلطة مطلقة للجنرالات. أين ذهبت «جمهورية الضباط» كما سماها تقرير «كارنيجى»؟ هل ذابت مع إزاحة ديناصوراتها؟ أم أنها قبلت بالاستمرار بعيدا عن الأضواء مقابل تعزيز شركة الحكم الجديد.. وهى الشركة التى يتشارك فيها المرسى (المدنى) مع جيل ضباط ما بعد أكتوبر (العسكرى) وفى وجود الراعى الدولى (أمريكا..)؟ شروط الشركة غير معروفة... وهل بنيت على قواعد جديدة يمكن من خلالها محاكمة القتلة فى ماسبيرو؟ هذا هو السؤال... ولا عزاء لدراويش ال100 يوم الأولى الذين انضم إليهم مؤخرا وفد من حملة المباخر فى النظام القديم. يهنئون بوصول المرسى تقدما هائلا فى التدريب ليكون مبارك.