أكثر الأفكار فشلا هى أكثرها رواجا هذه الأيام، فنحن أمام تصور ثبت فشله تماما على مدى الأشهر الماضية، ورغم ذلك تصمم بعض الجهات على تطبيقه، كأنهم يتوقعون نتيجة مختلفة! عموما الفكرة التى تعتقد الشرطتان، المدنية والعسكرية، أنها قابلة للتطبيق وجاهزة للنجاح، هى أن مواجهة مظاهرات الشباب بالعنف تستطيع فض المظاهرات وإنهاءها. هذا الكلام كان جائزا وممكنا فعلا حتى ظهيرة 28 يناير الماضى، من ساعة مغربية هذا اليوم انتهت تلك الفكرة وماتت، وصارت أسطورة، لا تزال بعض عقول الشرطتين، المدنية والعسكرية، تصدقها! الحاصل أن كل محاولات فض المظاهرات، بما فيها تجمعات الألتراس فى استاد الكرة، فشلت تماما فى إنهاء التظاهر أو إيقاف الاحتجاج، لا قذف قنابل الدخان ولا ضرب العصى ولا أى حاجة من هذه الأدوات تفرق الآن مع الشباب، إن غضب، وإن احتج، وإن قرر أن يعلن عن احتجاجه الغاضب! فكروا كده كم مرة فعلتها الشرطة، ولكن المظاهرات تفرقت فى شوارع محيطة، أو تجمعت فى مكان آخر، أو رد عليهم الشباب بالحجارة، أو عادوا إلى الميدان. ألم يتعلم هؤلاء فى المدرسة نظرية بافلوف؟ .. وإلى هذا الحد كان مدرسهم للعلوم فاشلا! لا تجد إذن أى أثر لنجاح العنف فى مواجهة المظاهرات. أولا: لأنه فاشل أصلا، فالغضب أقوى من الرصاص. ثانيا: لأن طبيعة المتظاهر الشاب تغيرت وتبدلت وصارت أكثر جسارة واندفاعا، كما تحصن الشباب بإيمانهم بما يفعلونه، زادت على هذا، الرغبة فى الشهادة والاستعداد للموت بلا أى تردد، اختلط الغضب مع الشعور بالإحباط مما يعتبرونه انحرافا عن الثورة، أضيف إلى هذا تحول المواجهة إلى صدام بين جيلين، جيل الشباب وجيل المسؤولين من عمر أجدادهم وأحفادهم، ونحن نعرف أن عناد الشباب لا يمكن أن ينافسه إلا عناد المسنين! كل ما فعلته الشرطة المدنية والعسكرية، وما ستفعله من مواجهة بالعنف ضربا أو اعتداء أو احتجازا أو سبا وشتائم أو حصارا ومحاصرة أو استخدام كل ذخيرة قانون الطوارئ، لن ينجح فى تعطيل أو إجهاض أو إنهاء غضب متظاهرى جيل 25 يناير. من أين أملك هذه الثقة التى تدفعنى إلى هذا الاقتناع؟ أملكها من هذا المشهد الذى عشته خلال أيام الثورة. كنت فى الميدان ذلك العصر، حيث قرابة الثلاثمئة ألف متظاهر يهتفون ويغنون وينشدون للحرية، وبينما يتحلق حولى مئات فى أسئلتهم عن المستقبل والغد، فجأة ظهر صوت مدوٍ مزلزل محلق فى السماء، طائرة «إف 16» تطير تقريبا فوق أسطح العمارات، قريبة جدا ومفزعة للغاية، تسحق عظام طبلة الأذن، وتجمد الدماء فى العروق، أعقبتها طائرة أخرى من نفس الطراز، فى استعراض يستهدف الإرهاب -ولا شك- لجموع المتظاهرين، أزيز وهدير للرعب وتحليق للضغط ووجود ثقيل يضرب ويمزق أعصاب الناس، كان التحليق غريبا والطائرات تتناقض مع كل بيانات الجيش المطمئنة، والهدف كان مكشوفا حتى البداهة وربما السذاجة، لكن المذهل كان رد هؤلاء المئات من الألوف، عن نفسى كنت مشغولا جدا برد فعل الناس أكثر من التفكير فى رد فعلى، كنت قد تلقيت الرسالة شأنى شأن الآلاف، ومنهم مئات حولى، لم ينفضوا، وربما لم يتوقفوا عن الأسئلة والمصافحة، لكن بعد صمت جماعى استمر دقيقة، ضاعت فيه الأصوات تحت صوت الطائرات الحربية، التى جعلت من ميدان التحرير أرضا للأعداء، فجأة أمسك أحد مسؤولى الإذاعة بمكبر الصوت وغنى «بلادى بلادى بلادى.. لك حبى وفؤادى»، فغنى الجميع معه، لكن عادت الطائرتان من جديد. تطير واحدة فوق آذان الناس ورؤوسهم، تكاد الطائرة الأخرى تهد بصوتها المفزع المرعب جدران البيوت، فبكت واحدة من البنات حولى، حيث تألمت أذناها، ربما لسبب خلقى ما، فيما عدا هذا البكاء المصاحب له بكاء عدة أطفال، هتف مئات، ثم لاحقهم آلاف، ثم مئات الآلاف بالهتاف نفسه.. «حسنى اتجنن.. حسنى اتجنن.. حسنى اتجنن». كان الهتاف ساخرا ساحرا وشجاعا وعاليا ومتعاليا وجارحا ومستخفا متهكما ومعلنا أن لا شىء قد يرعب هؤلاء بعد اليوم! ومن يومها يا عزيزى!