المشكلة الحقيقية أن الجريمة الأعظم التى ارتكبها الرئيس السابق حسنى مبارك هى الجريمة الوحيدة التى لن يحاسبه أحد عليها، أو يوجه إليه رجل النيابة اتهاما بشأنها.. ألا وهى جريمة إفساد التعليم والعقول.. ومخطئ من يتصور أن إفساد التعليم كان قضية هامشية بالنسبة لنظام فاسد مثل نظام حسنى مبارك، أو أن التعليم قد فسد بشكل تلقائى وجزافى وغير متعمد.. لأ.. إفساد التعليم كان هو حجر الزاوية فى تكنيك النظام السابق لفتح الطريق أمام أى فساد أو إفساد آخر.. وفى حالة عدم اقتناعكم بما أقوله، تستطيعون التأكد بأنفسكم عن طريق الاختباء بداخل أى مصباح قديم فى قصر أى حاكم ظالم أو مستبد.. ثم تطلعوله فجأة من فتحة المصباح وتعملوله فيها عفريت، وأنتم تسألونه عن أمنيته الأثيرة لتحققوها له.. وسوف يخبركم وقتها دون أدنى تردد.. «خربأة التعليم.. مش عايز حد من الشعب يفكر بشكل منطقى.. عشان أعرف أخربأ البلد بمزاجى»! إذن.. كيف قمنا نحن المتخربئة عقولهم عبر سنوات وسنوات من اللا تعليم بتلك الثورة المتحضرة والراقية التى أذهلتنا نحن أنفسنا قبل أن تذهل العالم بأسره؟!.. قمنا بها بالجزء الصغير الفطرى المتبقى بداخلنا كشعب أنشأ جدوده الحضارة واخترعوا وأرسوا ووضعوا قواعد وأسس الكتابة والفنون والعلوم، بينما كان العالم يرتع فى ظلام الجهل ووحشة الهمجية.. قمنا بها بالكام خلية السليمة فى عقولنا التى استطعنا الخروج بها من حرب الثلاثين عاما التى شنها النظام السابق ضدنا فى إطار عملية الإبادة الجماعية المنظمة لعقولنا وإدراكنا ووعينا.. قمنا بها بالعودة إلى بطاقة ذاكرتنا الروحية المدونة عليها خواصنا الجينية المتمثلة فى أننا شعب عظيم يمر بفترة تاريخية صعبة ومرتبكة ومشوشة.. قمنا بها لإنقاذ جزء صغير متبق لم يفسد بداخل أرواحنا، وجزء صغير متبق لا يزال يدرك ويعى ويفكر بداخل عقولنا.. قمنا بها لتزييت صواميل أدمغتنا التى ارتضت العبث كل تلك الفترة، بعد أن أصابتها حالة غامضة من الصدأ الجزئى.. فلماذا بعد أن بدأت تروس ماكينة المخ فى الدوران مرة أخرى بعد طول توقف توقفنا عن التزييت؟! هل هناك مؤامرة فى الموضوع؟.. نعم.. هناك مؤامرة.. هناك طوال الوقت مؤامرة.. هناك مؤامرة كونية علينا ككائنات مش عارفة جاية منين ولا رايحة فين.. هناك مؤامرات بين الدول وبعضها لضمان التفوق والهيمنة السياسية والاقتصادية.. هناك مؤامرات من شركات الأدوية العالمية بدليل اشتغالات إنفلونزا الطيور والخنازير.. هناك مؤامرات من تجار السلاح بدليل نشوب كل تلك الحروب والنزاعات والصراعات فى العالم.. هناك مؤامرات طوال الوقت.. وإلا فليخبرنى أحدكم عن سبب منطقى واحد لوجود جهاز مخابرات فى كل دولة تستقى الدولة قوتها من مدى قوته إذا لم تكن هناك مؤامرات.. هناك مؤامرات فى داخل كل دولة بين القوى السياسية المتصارعة.. بين الحكومة والمعارضة.. بين الفنانين اللى بجد والنحيتة.. بين الأشخاص وبعضهم البعض.. وإلا لما كانت هناك محاكم، ولما كان هناك قضاء، ولما كان هناك قانون.. هناك مؤامرة داخلية بداخل كل منا بين مكونات شخصيته المختلفة.. بين كسله ونشاطه.. بين خيره وشره.. بين عاطفته وعقله.. بين طموحه وواقعه.. هناك طوال الوقت مؤامرة.. تلك طبيعة حياتية جُبل البشر عليها.. والموضوع كله أشبه بمقولة صامويل بيكيت.. «أنا فى تلك الحياة.. لا علاج لذلك»! والسؤال الآن.. ما الذى ينبغى علينا أن نفعله حيال كل تلك المؤامرات التى تحيط بنا من كل الجوانب.. هل نقر بعدم وجودها فنكون غير واقعيين بس مرتاحين أم نقر بوجودها فنكون واقعيين بس مكتئبين؟! الإجابة فى مقولة العم جبران خليل جبران.. «الرجل الحر حقا هو من يتحمل فى صبر نير العبد المقيد».. فالحياة بكل تفاصيلها وقواعدها الكثيرة -التى من ضمنها أن هناك مؤامرات طوال الوقت- لم تخلق لنفهمها بشكل كلى، لأننا جزء منها، والجزء لا يدرك الكل.. وإنما لنحاول التعايش مع عدم فهمنا ذلك والتصرف فى ضوئه بأفضل ما يمكننا كبشر يعلمون أنهم لن يعلمون كنه تلك الحياة سوى بعد مغادرتها.. وهو ما لا نستطيع فعله بخلايا مخ متخربئة وغير قادرة على ربط التفاصيل ببعضها ولا على الابتعاد بصياعة عن أى مؤامرة قد تكون تحاك لنا الآن.. وهو ما يعود بنا إلى بداية ذلك المقال مرة أخرى!