قد تُفاجَأ وأنت تقرأ فى كتاب البخارى أو مسلم أو النسائى بواقعة شديدة الغرابة، هى واقعة هند بنت عتبة (ت 14 ه) مع النبى عليه الصلاة والسلام، لن تصدق الحوار الذى دار بينهما، وأقرب تعبير سيصدر منك: معقولة، بقى الرسول هيسمح لها بسرقة زوجها، قبل أن أروى الواقعة تعالوا نتعرف إلى هند هذه، حسب المروى فى ابن هشام، هى أم الخليفة معاوية بن أبى سفيان، فى غزوة أحد كانت مع بعض النسوة (حسب رواية ابن هشام فى السيرة) تمثل بجثث المسلمين، وتحرض المشركين بالدفوف على القتال، هند هذه قيل إنها أسلمت بعد فتح مكة، وحكت السيدة عائشة (حسب صياغة البخارى «ت 256 ه» باب النفقات) أن هند بنت عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطينى ما يكفينى وولدى، إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم، فقال (الرسول): «خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف»، وقد جاءت هذه الواقعة فى «صحيح مسلم»: «الأقضية»، و«سنن النسائى»: «آداب القضاة»، و«سنن أبى داوود»: «البيوع»، و«سنن ابن ماجه»: «التجارات»، و«مسند أحمد»: «باقى مسند الأنصار»، و«سنن الدارمى»: «باب النكاح». أقدم رواية لهذه الواقعة وصلتنا عن طريق ابن سعد (ت 230 ه) فى كتابه «الطبقات الكبرى»، عن طريق: ميمون بن مهران، وعائشة بنت أبى بكر زوجة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت هند قد جاءت الرسول مع بعض النسوة لمبايعته، أو حسب رواية ميمون: «أن نسوة أتين النبى -صلى الله عليه وسلم- فيهن هند بنت عتبة بن ربيعة وهى أم معاوية يبايعنه. فلما أن قال رسول الله: (لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن). قالت هند: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل على حرج أن أصيب من طعامه من غير إذنه؟، قال: فرخص لها رسول الله فى الرطب ولم يرخص لها فى اليابس..». الرواية الثانية نقلها ابن سعد عن وكيع بن الجراح عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: «جاءت هند إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطينى وولدى ما يكفينى إلا ما أخذت من ماله وهو لا يعلم. فقال: خذى ما يكفيك وولدك بالمعروف». هذه الواقعة أثير حولها خلاف كبير، هل الرسول صلى الله عليه وسلم سمح لهند ولغير هند بسرقة أموال زوجها لكى تنفق على المنزل؟ البعض اعترض على مفردة «سرقة»، وقال إن التعبير الصحيح هو «الأخذ»، أن تأخذ من مال زوجها، فريق ثالث، قال: كان يصف ما فعلته هند بنت عتبة بال«سرقة» أو ال«أخذ»، فهى فى النهاية قد أخذت من مال زوجها دون علمه. قال القرطبى: «هذا أمر إباحة بدليل ما وقع فى رواية للبخارى بلفظ: (لا حرج)، والمراد بالمعروف القدر الذى عرف بالعادة أنه الكفاية قال: وهذه الإباحة وإن كانت مطلقة لفظا فهى مقيدة معنى، كأنه قال: إن صح ما ذكرت. والحديث فيه دليل على وجوب نفقة الزوجة على زوجها، وهو مجمع عليه كما سلف، وعلى وجوب نفقة الولد على الأب، وأنه يجوز لمن وجبت له النفقة شرعا على شخص أن يأخذ من ماله ما يكفيه إذا لم يقع منه الامتثال وأصر على التمرد، وظاهره أنه لا فرق فى وجوب نفقة الأولاد على أبيهم بين الصغير والكبير لعدم الاستفصال وهو ينزل منزلة العموم». القضية لم تقف عند توصيف الفعل، بل تطورت وتفرعت، حيث سأل البعض: هل سماح الرسول لها جاء على سبيل الإباحة أى الفتيا أم على سبيل الحكم أو القضاء، بعضهم قال بأن موافقته فتيا، والبعض الآخر قال إنها جاءت على سبيل القضاء، لأنها لو كانت فتيا فسوف تكون قاعدة تسمح لجميع النساء بسرقة أموال الأزواج، أو بالتعبير الألطف بأن تأخذ الزوجة ما يكفيها هى وأولادها، التعبير الأخير أثار مسألة تقديرية، وهى حد الكفاية، من الذى سيقدر بأن ما تأخذه الزوجة من أموال زوجها دون علمه يكفيها هى وأولادها، قد يكفيها ألفا وقد يكفى أخرى مئة. واقعة هند بنت عتبة حاولوا أن يعثروا لها على توصيف شرعى وقضائى، الرسول قد أباح أو سمح، فما هو توصيفه، الشافعية قاموا بتسمية فعل هند ب«الظفر»، فقد ظفرت بحقها، وهو ما يمكن أى إنسان الظفر بحقه، وعند الحنفية «المنع» والحنابلة، أو حسب صياغة ابن حجر: «أن من له عند غيره حق وهو عاجز عن استيفائه جاز له أن يأخذ من ماله قدر حقه بغير إذنه، وهو قول الشافعى وجماعة وتسمى مسألة الظفر، والراجح عندهم لا يأخذ غير جنس حقه إلا إذا تعذر جنس حقه، وعن أبى حنيفة المنع وعنه يأخذ جنس حقه، ولا يأخذ من غير جنس حقه إلا أحد النقدين بدل الآخر، وعن مالك ثلاث روايات كهذه الآراء وعن أحمد المنع مطلقا». وقال الخطابى: «قال الخطابى يؤخذ من حديث هند جواز أخذ الجنس وغير الجنس، لأن منزل الشحيح لا يجمع كل ما يحتاج إليه من النفقة والكسوة وسائر المرافق اللازمة، وقد أطلق لها الإذن فى أخذ الكفاية من ماله، قال ويدل على صحة ذلك قولها فى رواية أخرى و(إنه لا يدخل على بيتى ما يكفينى وولدى)». من الناحية القضائية رأى البعض أن الرسول صلى الله عليه وسلم فى واقعة هند بنت عتبة أرسى قاعدة الحكم على الغائب، فسماحه أو إباحته لهند بأخذ ما يكفيها من أموال أبى سفيان دون الرجوع إلى أبى سفيان وسؤاله عن صحة ادعاء هند، هو القضاء على الغائب، وقد اعترض النووى على توصيف الواقعة ضمن القضاء على الغائب بحجة مقنعة، وهى أن أبا سفيان لم يكن غائبا خارج البلدة، فالواقعة جرت فى مكة، وأبو سفيان كان حيا وموجودا فى مكة: «ولا يصح الاستدلال، لأن هذه القصة كانت بمكة، وكان أبو سفيان حاضرا بها، وشرط القضاء على الغائب أن يكون غائبا عن البلد أو مستترا لا يقدر عليه أو متعززا ولم يكن هذا الشرط فى أبى سفيان موجودا، فلا يكون قضاء على الغائب بل هو إفتاء». ابن سعد فى طبقاته ذكر رواية ثالثة تؤكد بالفعل وجود أبى سفيان فى مكة خلال الواقعة، كما أن هذه الرواية تجهض أغلب ما ذكر، الرواية نقلها عن عبد الله بن موسى، وأكد فيها الشعبى أن الرسول لم يقض على الغائب بل فى حضور أبى سفيان، حيث أرسل فى طلبه، وجاء بالفعل وسمح لهند بأخذ ما يكفيها دون علمه: «قال عبد الله بن موسى: أخبرنا عمر بن أبى زائدة قال: سمعت الشعبى يذكر أن النساء جئن يبايعن، فقال النبى صلى الله عليه وسلم: تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئا. فقالت هند: إنا لقائلوها. قال: فلا تسرقن. فقالت هند: كنت أصيب من مال أبى سفيان. قال أبو سفيان: فما أصبت من مالى فهو حلال لك». وقد ذكرها الحاكم فى المستدرك: «وينقل ابن حجر (فى فتح البارى) عن الحاكم (فى المستدرك) رواية تبين أن رسول الله لم يفت هند أصلا إلا بعد أن استشار زوجها فى أمرها». تقول الرواية: «أخبرنا أبو بكر أحمد بن سليمان الفقيه ببغداد، حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضى، وحدثنا الشيخ أبو بكر بن إسحاق الفقيه، أنبأ العباس بن الفضل الأسفاطى، قالا: حدثنا إسماعيل بن أبى أويس، حدثنى أخى، عن سليمان بن بلال، عن ابن عجلان، عن أبيه، عن فاطمة بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، أن أبا حذيفة بن عتبة رضى الله عنه، أتى بها وبهند بنت عتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، تبايعه فقالت: أخذ علينا فشرط علينا، قالت: قلت له: يا ابن عم، هل علمت فى قومك من هذه العاهات أو الهنات شيئا؟، قال أبو حذيفة: إيها فبايعيه، فإن بهذا يبايع وهكذا يشترط، فقالت هند: لا أبايعك على السرقة، إنى أسرق من مال زوجى، فكف النبى صلى الله عليه وسلم يده، وكفت يدها حتى أرسل إلى أبى سفيان فتحلل لها منه، فقال أبو سفيان: أما الرطب فنعم، وأما اليابس فلا ولا نعمة. قالت: فبايعناه، ثم قالت فاطمة: ما كانت قبة أبغض إلى من قبتك ولا أحب أن يبيحها الله وما فيها، والله ما من قبة أحب إلى أن يعمرها الله ويبارك فيها من قبتك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأيضا والله لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده) هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه». بالطبع قضية هند بنت عتبة لم تغلق رغم مرور هذه السنوات، والمدهش أن ملايين من النساء يفعلن مثل هند بشكل يومى، وملايين من الرجال يشبهون أبا سفيان فى شحه، وما زالت الشكوى مستمرة والسؤال قائما، والغريب أن جميع الفتاوى جاءت متسامحة مع النساء، واستشهدوا بواقعة الرائدة والزعيمة هند بنت عتبة: «فضيلة الشيخ، امرأة خمسينية متزوجة منذ قرابة 26 عاما تسأل وتقول: إن زوجها يقصر فى إعطائها ما يكفى من مال هى وأولادها، كما أنه لا يكسوهم بشكل جيد ولا يشترى بعض ما يخصها من أدوية، وما أصبح الآن من ضروريات العصر، وهو متزوج بأخرى ويعطيها من المال ما يكفيها كما تقول وهو لا يقصر فى توفير ما يلزم من طعام وشراب. فهل يجوز لها أن تأخذ من مال زوجها دون علمه لشراء ما يلزمها وأولادها من ملابس وأدوية تحتاجها وفراش وتأثيث للمنزل؟ أرجو النصح والإرشاد من فضيلتكم وأفتوها فى أمرها لو تكرمتم وجزاكم الله خيرا». أجاب الشيخ: «الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد: فإن كان الزوج لا يبذل ما عليه من النفقة الواجبة بالمعروف، وطالبته زوجته بها فبخل ولم يبذلها، فلها أن تأخذ من ماله بغير علمه ما يكفيها وولدها من النفقة بالمعروف، وهو القدر الواجب. وما عدا هذا القدر فلا يجوز أخذه دون علم الزوج، وننبه الزوجة بأن ما تريد المال لأجله مما ذكرته من الفرش وتأثيث المنزل ونحو ذلك، أنه فى الغالب لا يكون مما يجب على الزوج، وبالتالى فلا يجوز أخذه إلا بعلم الزوج. حتى إن نفقات علاج الزوجة وإن كان بذل الزوج لها من حسن العشرة وكرم الطباع، إلا أنه لا يجب عليه فى قول أكثر الفقهاء».