كلنا، أو بالدقة، أغلبنا مذهول أو مستنكر هذا النزوع الحالى إلى الغَرْف من كراكيب الماضى، أشخاصا وسياسات.. وفى سوق التفكير والتحليل تنتشر وتروّج تفسيرات عدة لهذه الحال من الحبسة الطوعية فى سجن الماضى، أشهرها وأقربها إلى المنطق، غياب الرؤية وفقر الخبرة وضعف المكون السياسى. لكنى أضيف تفسيرا آخر ربما هو منبع تلك التفسيرات الرائجة وسببها المباشر، أقصد حال الفقر والبؤس الشامل (المادى والعقلى والسياسى) الذى تركته سنوات وعقود الجمر الطويلة ينخر وينحر بقسوة وعنف فى مجتمعنا ودولتنا. فى هذا. ولكى أوضح ما أقصده دون أن أوجع دماغك عزيزى القارئ، بكلام كبير كثير فسوف أحيلك إلى رواية رائعة أبدعها أبو القَصّ الروسى الحديث نيكولاى جوجول (1809 - 1852)، تلك التى ذاع صيتها، واشتهرت بين عموم الجمهور والنقاد معًا، فى أربعة أركان العالم تحت اسم «المعطف». هذه الرواية التى قال عنها ديستوفسكى «إن الأدب الروسى كله خرج من معطفها»، خلَّدت نموذجًا إنسانيًّا للبؤس والغُلب هو بطلها المدعو «أكاكى أكاكيفيتش»، ذلك الموظف الصغير الفقير المسكين الذى أنفق سنوات حياته كلها أسير غلبه ومخلصا جدا ومستسلما تماما لضعفه الشديد، وصار هذا الضعف بتعاقب الأيام والسنين إدمانا لا يستطيع العيش إذا خرج عنه أو تحداه لحظة واحدة، لدرجة أن معطفه القديم الذى أكل عليه الدهر وشرب وأصبح خرقة بالية تغزوها الخروم من كل جانب، لما اضطر اضطرارا إلى استبدال به آخر جديد (بعد طول عناد ومراوغة ومقاومة) فإنه لم يتمكن من البقاء على قيد الحياة فى ظل صورته المستحدثة، وهو يرفل متألقا فى ذلك «البالطو» القشيب، إذ فقد مع القديم «رمز» بؤسه التليد، وبسرعة ضاع المعطف الجديد، ومات أكاكفيتش بحسرته. الملخص المخلّ جدا للرواية، أن صاحبنا أكاكيفيتش، كما رسم العبقرى جوجول ملامحه من أول سطر فى الرواية، غلبان ويعيش على هامش الهامش، بل ولا يكاد يُذكر حتى فى الميلاد والنشأة، فالراوى يقدم حكايته للقارئ قائلا: «إن لم أكن مخطئا، فإن أكاكى أكاكيفيتش وُلد مساء يوم 22 أو 23 من شهر مارس»!.. إذن راوى الحكاية نفسه ليس متأكدا من يوم مولد بطله، ويلقى فى روع القارئ منذ البداية المدى الذى بلغه الرجل من الهامشية وعدم اكتراث أحد بوجوده فى الدنيا أصلا. إنه موظف بسيط جدا (وظيفته مجرد ناسخ للأوراق الرسمية)، وهو يبالغ فى الإحساس بضعفه وتفاهة وضعه، ومن ثم فقد تعود على التقشف والحرمان من كل متع الحياة، كما أنه يمضى فى حياته الفقيرة الرتيبة دون أن يبالى بأنه صار أضحوكة و«تحفة» نادرة يتسلى بها زملاؤه فى العمل، وكل من يعرفه، كما أن معطفه المهترئ أصبح فعلا رمزا كوميديا خالدا، فمع تراكم الأزمنة لم يعد أحد يسميه «معطف» بل مجرد «شىء رث» وخلاص. هكذا مضت حياة «أكاكيفيتش».. ثابت فى احترامه لبؤسه، بل ومستمتع به، وليس عنده أى رغبة فى تغييره، لدرجة أنه لما جاءته فرصة أن يترقى ويغادر وظيفته التافهة إلى وظيفة أعلى.. قاوم ورفض. المقاومة نفسها أبداها لما لا حظ أن معطفه التليد لم يعد يقيه من زمهرير البرد القارس فذهب إلى الخياط يرجوه رَتْقَه وإصلاحه، لكن الخياط أبلغه بوضوح أن «البالطو» صار هو والعدم سواء، ولا يصلح معه أى إصلاح، وأن لا سبيل أو مهرب أمامه إلا تفصيل معطف جديد.. وقد كان. لكن أكاكيفيتش لم يهنأ بالخروج من أَسْر منظره البائس كثيرا فقد ضاع «البالطو» الجديد، وغادر هو الدنيا حزينا على أثر هذه الحادثة.. كأن «القديم» بكل هوانه ورثاثته، هو قدره المحتوم.