لا يتسع المجال هنا للحديث عن هؤلاء الكتاب والمبدعين، الذين يملؤون الدنيا صياحًا وادعاءات حول ما يكتبون، وحول كل ما يخطونه، وبعد أن تنسحب الأضواء عنهم، يذهبون هم وكتاباته إلى المكان اللائق بهم، إلى ساحة النسيان الضخمة، حتى لو تم استدعاء هذه الكتابات، سنلاحظ أنها لا تمثل أى قيمة، ولا أى أهمية، وما هى إلا بضع أوراق بائسة تعبر عن شغف مجنون بملء فراغ شاسع كان يعيش فيه هذا الكاتب، أو ذاك المبدع، اللهم أخرجنا من هذه الفئة المسكينة، هذه الفئة التى تعمل دوما على تعطيل ذكر هذا، والتريف اللائق بذاك. وهناك من يزعم أن المجال يتسع للجميع، ولن تبقى سوى الكلمة الجيدة والمفيدة، ولنترك كل من يكتب.. يكتب، وسوف يحكم التاريخ بما يليق بهذا أو بذاك، وأنا لست ضد ذلك، حتى لا أحسب ضمن القامعين والمانعين، لكن لا أن ندرك أن هذه الفئة المتصايحة من الكتاب، لا تنتج أدبا رديئا فقط، ولا تنتج أبحاثا مكرورة ومتواضعة فقط، لكن صياحهم العالى يمنع الأصوات الأخرى العاقلة والهامسة من الوجود، من شدة التكالب والزحام حولها. ومن بين هذه الأصوات النقدية والبحثية والإبداعية العبقرية، التى تم اغتيالها بالتجاهل والنسيان والاستبعاد، أقصد الباحث والناقد والمؤرخ والمبدع الدكتور على شلش، هذا الكاتب الأنيق، الذى كان يسير فى هدوء، ويلقى محاضراته فى هدوء، ويبذل مجهودات خرافية فى هدوء، وللأسف لم تنتبه المؤسسات الثقافية المصرية الرسمية الكبرى إلى إعادة نشر أعماله النقدية والفكرية والإبداعية، ونحن فى ظل هوجة نشر «الأعمال الكاملة»، لكل من هبّ فى وجه مسؤول، أو دبّ فى أرض مؤسسة ثقافية، وأشهر سيف الإلحاح البشع فى وجه وزير أو مدير أو رئيس مجلس إدارة. بدأ على صلاح الدين شلش «الشهير بعلى شلش»، حياته الأدبية فى الإسكندرية، وفى حوزتى ما نشره فى بداية حياته الأولى، أى عندما كان طالبًا فى جامعة الإسكندرية، وكان يراسل المجلات الثقافية، وفى أغسطس عام 1955 كتب مقالا عنوانه «من محنة الأدب.. الاطلاع!»، وكان عمره فى ذلك الوقت سبعة عشر عاما، إذ إنه من مواليد عام 1938، وفى هذا المقال المبكر، يناقش الشاب على شلش ظاهرة النشاط الثقافى العشوائى، ودون أى خطة، وهو يطرح مجموعة أفكار، تلفت النظر إليه فى ذلك الوقت المبكر. ويترك شلش الإسكندرية، ويحضر إلى القاهرة، ويقيم فيها، ويعمل محررا ومترجما فى سلسلة «كتابى»، التى كان يصدرها الكاتب والمترجم حلمى مراد، وكان شلش يترجم كثيرا دون أن يوضع توقيعه على ما ترجم تحت ما كتب، وكان فى ذلك الوقت مولعا بقراءة التاريخ الثقافى والسياسى المصرى، وكان كذلك يكتب القصة القصيرة والرواية، وفى 16 مايو عام 1960 نشرت صحيفة «المساء» خبرًا عن أن «دار سعد» نشرت رواية تاريخية للأديب على شلش، عنوانها «ثمن الحرية»، وكانت هذه الرواية قد فازت فى مسابقة أنشأتها محافظة المنصورة عن تاريخ المدينة النضالى، وفازت الرواية، وكانت قيمة الجائزة مئة جنيه، وتصوّر الرواية الانتصارات التى حققها شعبا دمياطوالمنصورة على الحملة الصليبية الفرنسية بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا. وكان شلش يكتب القصة القصيرة من قبل ذلك، وقد نشر هذه القصص والروايات فى ما بعد تحت عناوين مختلفة، مثل «عزف منفرد» و«حب على الطريقة القصصية» و«عزيزتى الحقيقة»، لكنه كان دؤوبا فى البحث عن منافذ للعمل والنشر، وذلك لسببين مهمين، الأول هو كان غزير الاطلاع، وغزير الإنتاج، وكان لا بد أن ينشر ما يكتبه، ثانيا أنه كان حريصا على توفير ما يستطيع أن ينفق على إقامته فى القاهرة، وكذلك يوفر ما ينفقه على عائلته، التى تركها عائلة فى رقبة هذا الشاب. وفى عام 1964 التحق شلش بمجلة القصة، وكان يحرر بابًا مهما، وهو «القصة حول العالم»، وقدم فى هذا الباب قراءات لأهم الروايات والقصص على مستوى العالم، وهذا يعود إلى قدرة شلش وإلمامه العميق باللغتين العربية والإنجليزية، مما دفعه إلى إنجاز ترجمات عديدة رائعة، وتأتى فى مقدمة هذه الترجمات مسرحية «بعد السقوط» لأرثر ميلر، وكتب لها دراسة نقدية متميزة. واجتهد فى الحصول على الماجستير فى تاريخ الصحافة السينمائية، والدكتوراه فى تاريخ المجلات الثقافية المصرية، وهذان البحثان من أكثر البحوث دقةً وإحاطةً فى هذا الشأن، ولم يقتصر بحث وتنقيب شلش على هذين البحثين فقط، بل إنه ظل يواصل أبحاثه فى التاريخ الثقافى، فكتب فى هذا الشأن ما يزيد على العشرين كتابا، وهذه ليست كتبا عابرة، لكنها كتب تبقى، وكتب تمثل ضرورات كانت مغيبة، ومنها بحثه عن «الماسونية فى مصر»، وكتابه عن نجيب محفوظ، والبحث فى أضابير تاريخ هذا العملاق، ليكتشف أنه لم يكن مجهولا منذ بداياته، بل كان نجما مرموقا فى الأربعينيات، ولا ننسى كتابه عن تحولات سيد قطب، ولا كتابه عن «طه حسين المطلوب حيا وميتا»، وردّ على كثيرين من الذين هاجموا طه حسين بعد رحيله. ولعلى شلش فضل كبير فى التعريف بالأدب الإفريقى، فهو أكثر من كتب عن هذا الأدب، وترجم عنه إلى اللغة العربية، ولا أعرف سببا وحيدا لتجاهله الظالم فى هذا المؤتمر، الذى سيفتح أبوابه بعد أيام قليلة. وتعرض على شلش للاعتقال العبثى فى منتصف ستينيات القرن الماضى، ويبدو أن العبثية ظلت تطارد هذا الرجل، حتى كان رحيله العبثى والمثير، وذلك فى ديسمبر عام 1993، وكنا ننتظره فى ساحة فندق «كيميت»، وترامى إلينا خبر رحيله إثر سكتة قلبية فى غرفته العلوية، بعد أن ألقى بحثه، ورحل إلى الأبد. ليت الإدارة الثقافية المصرية تنتبه إلى جهد هذا الرجل العظيم، الذى كان مفعمًا بالوطنية الشامخة، رغم أن سنواته الأخيرة كان قد قضاها أستاذا فى جامعات إنجلترا، ليتنا نستعيد كتاباته وأبحاثه فى ظل هذا المناخ الظالم.