أصحو دائمًا على صوت فيروز فى الإذاعة المصرية عبر إذاعة الأغانى، وعلى مدى نصف الساعة أشعر أنه مدد من السماء، فهى ترانيم الملائكة للمعذَّبين فى الأرض. أمس كان الله كريمًا معى، فما إن أنهت فيروز فقرتها حتى جاء صوت محمد قنديل «يا رايحين الغورية». درس الغورية، فى الحقيقة لدينا أكثر من درس، الكلمات لكاتب وضابط شرطة هو محمد على أحمد، ارتقى إلى رتبة اللواء، لمع فى بدايات عبد الحليم، وكان من الشعراء الذين شكَّلوا فى مرحلة الانطلاق قوة ضاربة لحليم، يكفى أن أذكر لكم مثلا أن «على قد الشوق اللى فى عيونى.. يا جميل سلِّم» كتب هذا الاستهلال الرائع كمال الطويل، عندما أراد مغازلة فتاة جميلة على شاطئ الإسكندرية، وبحساسية مرهفة أكملها محمد على أحمد لتصبح هى المنصة التى انطلق منها حليم، محققًا ذروة جماهيرية غير مسبوقة، وكان نجاح الأغنية هو المحفِّز الأول لتقديم فيلم «لحن الوفاء» الذى أطلقوا عليه فى البداية اسم «على قد الشوق»، وهو أيضًا الذى كتب قصيدة «لا تلُمْنى» لعبد الحليم من تلحين الطويل، هل أنعش ذاكرتكم بهذا البيت «إن جنيت الورد عفوًا.. لا تلمنى.. فعلى الشوك مشيت»، رحل الشاعر مبكرًا قبل عبد الحليم بأسابيع قليلة. دعونا نعاود تأمل «الغورية» بهذا اللحن الساحر، كان الطويل فى البدايات وقنديل فى عز تألقه، وجاءت «الغورية» ومعها «بين شطين وميّه» لمحمد على أحمد أيضًا، وتحمّس الطويل للأغنيتين، إلا أن اللجنة العليا فى الإذاعة المصرية التى كان يرأسها الشاعر صالح جودت اعترضت بحجة أن الطويل بلا خبرة، فكيف يجرؤ على التلحين لصوت قنديل الذى يتألق مع الكبار، أمثال رياض السنباطى ومحمود الشريف وأحمد صدقى. الطويل تمسك بحقه فى التجربة، وإذا لم يُقدم ما هو لائق فسوف يمتثل لرأى اللجنة ويعتذر، وجاء اللحنان وهما يشعان صدقا وألَقًا. كان عبد الحليم حافظ لديه إحساس بأن كل ما ينجزه صديقه الطويل من إبداع هو الأَوْلى به، ولديه أيضًا قناعة أنه يملك بصوته وجهة نظر فى أداء اللحن مغايرة لقنديل، وهكذا سجّله دون علم الطويل، ولم تكن النتائج فى صالحه، ولهذا بعد أن حقق حليم نجاحًا جماهيريا طاغيا منحه نفوذًا فى الإذاعة المصرية، فقرر أن يمنع «الغورية» التى سجلها بصوته من التداول، لكن مع رحيل عبد الحليم صارت الأغنية من الممكن أن تتسلل لتصبح شاهدًا على موقف ودرس للأجيال، وهو أن بعض الألحان تخلق وبها نبض الصوت، وكان كمال الطويل من هؤلاء الملحنين الذين من الممكن أن تلمح فى أغنياتهم تلك الحالة من التوافق بين النغمة الموسيقية ونبرة الصوت، فلا تستطيع أن تستمع إليها بصوت الآخر، الأمر هنا ليس مقارنة بين حليم وقنديل، لكن بين مزاجين ومذاقين مختلفين، وهكذا كانت الغورية لقنديل وقنديل للغورية، الدرس الثانى هو أن لا نعاند أنفسنا، عبد الحليم لم يتشبّث بالخطأ، بل تمنى أن يمحوه أساسًا من تاريخه. هذا عن «الغورية» التاريخ والإبداع، لكن ماذا عن الغورية المعنى، «يا رايحين الغورية.. هاتوا لحبيبى هدية»، سوف أسلّم معكم أنه حدَّد المواصفات المطلوبة عندما قال «هاتوا لى توب من القصب يليق على رسمه.. أنقش عليه العجب وأكتب عليه اسمه»، هل يقبل ابن البلد أن يتغزل فى جسد محبوبته علنًا، ويطلب من الآخرين أن يشاركوه الغزل، خصوصًا أنه لم يحدد مَن أوصاهم بالشراء، نساء أم رجالا، ويواصل «هاتوا لحبيب الأوصاف حلق بدلّاية»، أيضًا لم نعرف نوع «الدلّاية» ولا حتى عيار الذهب، إنه الكسل اللذيذ الذى نعيش فيه حتى ونحن نحب، نريد مَن يذهب بدلا منا للغورية ونكتفى نحن بالنداء «يا رايحين يا رايحين الغورية»، وهو ما يتكرَّر مع نداء «تحيا مصر»، وهو ما يستحق أن تتسع معه دائرة الرؤية من حدود «الغورية» إلى حدود «المحروسة»!