تتمتع مصر منذ أزمنة بعيدة بأماكن ثقافية كثيرة، منها الأهلى، ومنها الحكومى، ومنها المختلط، وعلى سبيل المثال هناك أتيليه القاهرة للأدباء والفنانين، وهو يقع فى وسط البلد، وبالقرب من أشهر الميادين المصرية، أقصد ميدان طلعت حرب، والمكان فى حد ذاته تحفة فنية. ويقع بالقرب منه مكان آخر اسمه «روابط»، وحول هذين المكانين بضعة مقاهٍ ثقافية كثيرة، مثل المقهى الشهير «ريش»، ومقهى «زهرة البستان»، ومقهى «سوق الحميدية»، و«البورصة» ومقهى «صالح»، و«النادى اليونانى»، ومقهى «التكعيبة»، و«الجريون» و«أفتر إيت» و«أوستريل» و«الحرية»، وغيرها من المقاهى العريقة، التى شهدت حضورا كثيفا وفاعلا فى فترات مختلفة فى مسيرة الثقافة والمثقفين، وكانت هذه المقاهى عبارة عن مؤتمرات مصغرة أيام 25 يناير وما بعدها. وليست المقاهى فقط التى تحيط بالأتيليه و«روابط»، ولكن هناك سلسلة مكتبات ودور نشر كبيرة، بداية من «دار الشروق»، ثم مكتبة «مدبولى»، ومكتبة «عمر بوك ستورز»، ومكتبة «تنمية»، ومكتبة «ليلى»، ودار «ميريت»، ودار «الثقافة الجديدة»، ودار «سنابل»، ودار «شرقيات» ودار «العين» ودار «وعد»، وغير ذلك من مكتبات ودور نشر. وإذا كانت هذه الأماكن كانت فاعلة فى فترات ما، فإنها كثيرا ما تعانى من ركود فى غالبية الأحيان، أقصد أتيليه القاهرة ومسرح «روابط»، وبالنسبة إلى أتيليه القاهرة، الذى شهد مؤخرًا حفل تأبين للراحل سليمان فياض، لم تصبح الحركة فيه موّارة وفاعلة مثلما كان قديما، إذ كان يرتاده أمل دنقل ويحيى الطاهر عبد الله وإبراهيم فتحى وإبراهيم أصلان. وأنا لا أعتب على أحد ولا ألوم إدارة، وقد يكون الوضع العام هو المسؤول عن انهيار الأشكال الحاضنة للثقافة، رغم أن أتيليه القاهرة محاط بمقاهٍ ودور نشر عديدة جدا. وعلى ذكر هذا الانهيار، أعتقد أن مكانا آخر يعانى من المشكلة نفسها، وهو نادى القصة، الذى يقع فى منطقة فى غاية الحيوية، أى منطقة قصر العينى، ورغم أننى أعرف المجهود الذى يبذله مثقفون وأدباء ونقاد فى هذا المكان، لتحويله من مجرد «مكان» إلى «مكانة» ذات قيمة حقيقية، وأخصّ بالذكر هنا الناقد والمترجم ربيع مفتاح، الذى يخصص معظم وقته لإحياء فاعليات ثقافية متنوعة فى هذا المكان، ولكن المكان يصرّ على أن يكون مكانًا لإقامة ندوات قد لا يسمع عنها أحد، ولا نقرأ عنها فى الصحف، وليست ذات تأثير واضح فى الحركة الثقافية، وبالتالى فهى ندوات منفصلة تمامًا عن المجتمع، وأرجو أن لا يغضب أصدقائى من هذه الملاحظات. وجدير بالذكر أن تاريخ هذا المكان أو الكيان كان تاريخا فاعلا بدرجة كبيرة، وكان يرتاده مثقفون ونقاد وأدباء كبار، وضم فى مجلسه فى إحدى مراحله أسماء من طراز طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وسعد مكاوى وعبد الحميد جودة السحار وصلاح ذهنى ويوسف السباعى وإحسان عبد القدوس وغيرهم، وكان معظم هؤلاء يشاركون فى الندوات التى تعقد فى هذا النادى. وقد أنشئ هذا النادى قبيل قيام ثورة 23 يوليو بقليل، وكانت فكرته الأساسية انبثقت فى رأس إحسان عبد القدوس، وبالتالى أفضى بها لصديقه يوسف السباعى، الذى كتب مقالا عنوانه «ما يجب أن تعرفه عن نادى القصة»، وذلك فى 5 مايو عام 1952 بمجلة «روزاليوسف»، وقدمت المجلة هذا المقال بكلمة جاء فيها: «.. أول ناد للقصة فى مصر.. أول من فكّر فى إنشائه إحسان عبد القدوس، وقد عرض فكرته على يوسف السباعى، وبعد أن بحثاها على لفيف من كتاب القصة فى اجتماع ضمهم فى بيت إحسان حول مائدة الشاى». واستهل السباعى مقاله بأغراض هذا النادى، نذكر منها: «وضعت فى الخطوط الرئيسية للمشروع ما يلى: (1) الغرض من النادى هو خدمة القصة المصرية وإعلاء شأنها وإنشاء مؤسسة ثابتة لكتابها والمهتمين بأمرها.. (2) يتكون النادى من هيئة فنية إدارية تضم نخبة من كتاب القصة تقوم بمختلف نواحى النشاط التى تقرها الهيئة وتشترك فى إصدار مختلف النشرات والمطبوعات، سواء كانت دورية أو غير دورية..»، ويستطرد السباعى راصدًا أهداف النادى، التى تصل إلى أربع عشرة نقطة. وفى العدد التالى مباشرة كتب الأديب عبد الحميد جودة السحار، مقالًا تحت عنوان «مرحبًا بنادى القصة»، وجاء فيه: «إننى أؤمن أن نادى القصة يمكنه أن يسدى إلى القصة المصرية أجلّ خدمة.. بل أؤمن أن هذا النادى يستطيع أن يربط الأواصر بين القصاصين فى العالم العربى، وأن يسهر على إنتاجهم، وأن يكون دعامة قوية من دعائم النهضة القصصية العربية». وبالفعل أثبت النادى بندواته ولقاءاته وإصداراته كفاءة نادرة وكبيرة فى تقديم خدمة جليلة لكتاب القصة، وللمثقفين والنقاد عمومًا، وراح ليقدّم لأول مرة كتّابًا أصبحوا علامات فى طريق القصة المصرية والعربية والإنسانية فى ما بعد، إذ نشر أول مجموعة قصصية ليوسف إدريس، وهى مجموعته «أرخص ليالى»، وكذلك أول مجموعة ليوسف الشارونى، وهى «العشاق الخمسة»، كما أعاد نشر روايات «بداية ونهاية وخان الخليلى وفضيحة فى القاهرة والسراب» لنجيب محفوظ، ونشر الرواية الأولى «الأرض» لعبد الرحمن الشرقاوى، وتوالى نشر إبداعات طه حسين ومحمود تيمور وتوفيق الحكيم وسعد مكاوى وآخرين. وبعد ثلاثة وستين عامًا من إنشاء هذا النادى، هل ما زال يلعب دوره القديم، أم أنه ذهب مع ريح الجدية والثراء الثقافى الذى يغمر السنوات الأولى من ثورة يوليو؟!