وها هى قطعة من جمالنا المصرى تنسحب معتذرة مع الغروب، فقدناها كأننا لا نكتفى، وأخذت معها بعضا من قلوبنا وشذرات من حبة أرواحنا المتطايرة شعاعا وشجنا، فهل من مزيد؟ أبنودى مصر يغيب عن مصر، فلا تعود مصر كما كانت، تماما كعادتها، هذه المصر الحرون بطباعها الصعبة المتعبة تسافر فى قلوبنا فنسافر، نقع فى حبها فتتكاسل.. تتشاغل. تتباعد وتأبى بعناد أن تعود، تتعبنا نحن عشاقها المغلوبين على أمرنا. أسعدنى زمانى بلقائه يومًا، أطعمنى ذات نهار بيديه التى تكتب الكلام الذى به تتكلم مصر الفلاحة الحلوة عندما يحلو لها أن تتكلم. مصر التى تسبى عيونها الناعسة قلوبًا وأرواحًا وهى لا مبالية، قاعدة ع الترعة بتغسل شعرها. مصر السد وحراجى القط. نكشته مداعبًا، قلت له: يا خال، قال لى: نعم، قلت له: احمد ربنا حظكو حلو! أنا لو كنت غنيت كنت حاقعدك فى البيت انت وعبد الحليم بتاعك! رد فورا: تقعّده هوا آه، بس أنا مالى، أنا كنت حاسترزق منك برضه! ونضحك! هو الإنسان القادر على ترجمة حروف عواطفنا، تلك التى تأبى فى العادة أن تتحول إلى كلمات تقال. هو الرسام الذى يرسم بحروفه السمراء ويضع الألوان مقتدرا كيف يحب، وحيث يشاء، سمرة النيل، خضار الغيط، صفرة الصحراء مع زرقة السما وبياض السحاب. سنابل القمح وسعف النخيل وأعواد القصب. نسمة الهوا الطرية فى عز الصيف متغمسة فى أذان المغرب، لقمة العيش الحاف المتغمسة فى العشق لما تتقسم فى نور القمر على اتنين، القلب الأخضرانى اللى دبلت فيه الأمانى. وهل من بعد الحب كلمة تقال؟ يا كلمتى، لفى ولفى الدنيا طولها وعرضها، وفتحى عيون البشر للى حصل على أرضها. هأنذا أتخيلك شابًّا تستمع بلهفة للراديو فى ليلة صيفية ستينية بعيدة، من هذا؟ هو عبد الحليم يقف صامتًا كالتلميذ المطيع، وخلفه يقف المايسترو العبقرى على إسماعيل، أستاذ التوزيع الموسيقى، ليتولى بنفسه قيادة الأوركسترا الكبير، الوتريات، ثم آلات النفخ بقواعد الهارمونى التى أبدع المايسترو فى توظيفها، لتضيف العمق للجملة الموسيقية البسيطة، فإذا هى شىء آخر يمتلئ شجنًا بآلات لم تصنع فى الأصل لتلقى شجنًا، لكن ها هى كالسحر تفعل! الترومبيت، الترامبون، ثم الأوبوا، وأخيرا لمسات الفلوت فائقة الحساسية، يقودها الأستاذ بروح مرهفة تشعر بأصغر شاردة وواردة، كأنها دقات قلبه وقد سافرت كلها إلى الطرف الدقيق لعصا المايسترو لتنبض فى الهواء كرسام قلب. أرواح تحلق، حنجرة عاشق تؤدى، والكل مسخر ليقول كلمتك أنت، يا من غاب ليلحق بكل هؤلاء الغائبين! هّوا انتو بتسيبونا لمين؟! يا هل ترى الليل الحزين.. أبو النجوم الدبلانين.. أبو الغناوى المجروحين.. يقدر ينسيها النهار أبو شمس بترش الحنين؟ أبدا!! يقولون إن عيون الرجولة لا تترقرق بالدموع، لكن الأمر يختلف حينما يكون الحديث عن مصر الحب.. والغلب! الآن أتذكر يا شاعرى، كان الوقت ظهرا ونحن نقف فى بهو ذلك النادى مكدودين منهكين محاصرين، فى الليلة الماضية كانوا قد هدموا الخيمة وقبضوا على الأولاد اللى قلوبهم خضرا بلون الزرع وأحلامهم وردى بلون الزهر وبلدهم المعشوق ست الحسن والجمال، سألونى كيف شعرت لاعتقالهم؟ تذكرت قبل عدة ليال كيف هاجمتهم القوات لتهدم الخيمة وتنزع العلم وتصادر طبلتهم الكبيرة، وكيف نجح شاب صغير فى الجرى خلف اللورى القبيح ليقفز فى داخله فى أثناء سيره ليسترد طبلته وزوج العصىّ، ثم يقفز خارجه فى لمح البصر، لا زلت أتذكر منظره ليلا وأضواء مصابيح الشارع تعكس ظله، ليبدو جسده الصغير عملاقا وهو يسير عائدا ظافرا بطبلته، يطبل عليها منتصرا زىّ القرد، ضاحكًا بخفة ظل مصرية عزّ مثيلها كأنه قد فتح عكا!! ثم وقفت أرقبهم وهم يعيدون رفع علم مصر على السور فى قلب الليل الصامت، وكيف لم يطاوعنى قلبى فتسللت ناحيتهم مستغلا الظلام، حيث لا يعرفنى أحد، لكى أرتقى السور معهم لأضيف لأياديهم العاشقة يدا إضافية ترفع مع أياديهم علم بلدى. وها هم قد زالوا فى الليلة الماضية لم يبقَ لهم أثر ولا حتى الطبلة!! سجنوهم، أخذوهم ليغتالوا براءتهم، لعلهم الآن يجلدون بالسياط أو يضربون بالأقلام والشلاليت. أردت أن أقول إن كل ذنبهم كان خيمة.. وطبلة وعَلَمًا.. وحنجرة تهتف ليل نهار تحيا مصر، هممت أن أقول لكن صوتى انحاش فجأة، انشرخ، وأخيرًا تنهمر صمتًا دموع غزيرة ساخنة على نحو أذهلنى لم يحدث لا من قبل ولا من بعد، لتنتقل عدواها على الفور لكل الواقفين حولى. إنها المصر التى نسعى خلفها بالمشوار ليأتينا كلامك، مشيت على الأشواك.. وجيت لأحبابك.. لا عرفوا إيه ودّاك.. ولا عرفوا إيه جابك!! رميت نفسك فى حضن.. سقاك الحضن حزن.. حتى فى أحضان الحبايب شوك.. يا قلبى.