جلستُ أمام شاشة التليفزيون مستمتعا، ربما هذه رابع أو خامس مرة أشاهد هذا الفيلم «جولد فينجر»، هو من إنتاج نهاية الستينيات من القرن الماضى، لعب فيه الممثل الرائع شون كونرى، دور جيمس بوند للمرة الثالثة، بعد «دكتور نو»، و«من روسيا مع حبى». وبوند هو أشهر شخصية سينمائية فى تاريخ الفن السابع، ولا أظن أن السينما تستطيع أن تنتج هذا العدد من الأفلام لبطل واحد مرة أخرى، 23 فيلما على مدى 50 عاما، والمدهش أن كل نجوم هذه السلسلة ممثلون بريطانيون، وحين جرَّبت هوليوود ممثلا أستراليا، جورج لازينبى، فى فيلم وحيد «فى الخدمة السرية لجلالة الملكة» فشل فشلا ذريعا، حتى عثرت على «روجر مور» ليلعب بطولة 7 أفلام، وكان نجما متألقا فى مسلسل تليفزيونى شهير هو «القديس»، أقرب إلى شخصية اللص الظريف، أرسين لوبين. وبوند من اختراع كاتب بريطانى «آيان فيلمنج»، جاسوس من طراز رفيع، واسع الحيلة، شديد الجاذبية، فاتك للنساء، مصرح له بالقتل، وهى عكس مواصفات أى جاسوس فى الواقع، فالجاسوس الفعلى لا يجب أن يميز بصفات شخصية حادة تلفت الأنظار إليه. والروائيون الإنجليز أبدعوا شخصيات عظمية عاشت فى عالم الأدب والسينما، فأجاثا كريستى أبدعت شخصيتَى «مس ماربل» ولم تعش إلا فى بضع روايات، ثم استبدلت بها «المفتش اللامع» هيروكيل بوارو، ولم تحبه السينما إلا فى فيلم أو فيلمين، فروايات أجاثا عميقة فى البحث عن الأسرار النفسية للشخصيات ومكنوناتها الخفية ودوافعها الداخلية، وهى أشياء يصعب على السينما إظهارها بالصورة، فمهما كانت دقة الصورة إلا أنها تعجز عن التعمق، وأرثر كونان دويل ابتكر «شارلوك هولمز»، المحقق البوليسى العبقرى، الذى لا تفوته شاردة ولا واردة فى مسرح الجرائم، ويتمتع بثقافة رفيعة فى علوم الكيمياء والأحياء والفيزياء، كما لو أنه معمل جنائى متنقِّل، تفتح له أبواب كل الألغاز، وروايات كونان مليئة بالأحداث والحركة، فصنعت منها السينما أفلاما عديدة، وإن لم تقترب أبدا من رقم أفلام «جيمس بوند»، وهو رقم يتجاوز عدد الروايات الفعلية التى كتبها آيان فيلمنج، فأكملها كتّاب سيناريو لكنهم حافظوا على روح الشخصية. وأتصوَّر أن شون كونرى هو أكثر ممثل موهوب أجاد دور «بوند»، وصنع سحره الذى أدام عمره لخمسين سنة سينما، وقد رفض أن يسجن نفسه داخل هذا الدور، وتمرّد عليه بعد 5 أفلام حلّقت به فى فضاء نجومية زاعقة، ثم بدأ ينتقى الأدوار التى كشفت عن أصيل موهبته، وهو ما صنعه نجمان تاليان هما بيرس بروسنان ودانيال كريج، وإن اكتست أفلام دانيال بلمسة إنسانية تتجاوز المغامرات والألغاز، فكان طبيعيا أن تنضم له الممثلة البريطانية الرائعة جودى دَينش، التى رشّحت لأكثر من سبعين جائزة حصلت على عديد منها، أهمها الأوسكار عن الدور المساعد فى فيلم «شكسبير فى حالة حب»، أما روجر مور فهو ممثل معقول يصلح لأداء هذا النوع من الأدوار، وإذا غادرها لا يحقق نفس الدرجة من النجاح، ولهذا عمل 7 أفلام متتالية منها. ما أجمل السينما حين تجمع ما بين المتعة والمعرفة!