قبل أن تسألنى مذيعة «بى بى سى» من لندن عن رأيى فى المهرجان وجوائزه، كان سؤالها الذى فرضته الأحداث الأخيرة، ما رد الفعل فى كواليس المهرجان عما تفعله «داعش»، تلك البشاعة التى شاهدناها جميعا عبر «يوتيوب»، وتسابقت مع الأسف الفضائيات فى ذيوعها وانتشارها، كأنها تُحقق سبقا، حيث كانت كاميرا السينما حاضرة فى المشهد، وتُقدم من خلال تتابع اللقطات وحجمها فيضانا من الرعب، لتُضفى على الواقع الدموى وحشية مضاعفة فوق وحشيته وبشاعته. كاميرات تملك أعلى تقنية هاى ديفينيشن ، ومصورون محترفون، ومخرج يقدم تتابعا سينمائيا تروج لممارسات داعش ؟ كانت إجابتى وهل تحتاج هذه الأفلام إلى أفلام مضادة؟ إنها تكفى وحدها لفضح هؤلاء السفاحين. هل نحن بحاجة إلى أفلام تُعرى ممارسات داعش أكثر مما هى عارية. لا يمكن أن تعزل ما يجرى حولنا فى العالم داخل أى تجمع فنى، خصوصا عندما تكشف ملامحك أو اسمك عن هويتك العربية، نعم الحدث سينما، والحديث سينما، لكننا لا ننعزل كأننا فى جزيرة خارج نطاق الحياة. يبدو لى مهرجان برلين فى تلك الدورة من 5 إلى 15 فبراير، كأنه وقع بين قوسين من حرق الطيار الأردنى معاذ الكساسبة، الذى كان يسيطر على المشاعر مواكبا للافتتاح، الرسالة واضحة جدا هى أن المطلوب تصدير الخوف للجميع، ليسكن الرعب فى القلوب، الأمر لا يحتاج إلى فيلم مضاد، من يتعاطف مع شريط تحرق فيه الأجساد وتراق الدماء لا يستحق أن نُقدم له فيلما يقول له إن تلك الممارسات تحرمها قبل الأديان الفطرة الإنسانية السليمة، كان هذا هو بداية القوس، أما نهايته فلقد كانت أشد ضراوة على نفوسنا جميعا، مواكبة للختام، فلقد جاء ذبح 21 مصريا على الهوية الدينية ليصل بنا إلى ذروة البشاعة، خصوصا عندما تتدثر بالدين، لنرى شريطا سينمائيا يريد أن يحيل البحر المتوسط إلى اللون الأحمر، لا ليست هذه هى كلمة النهاية، ولا هذا هو نهاية القوس، لن يضع الهمجيون الكلمة الأخيرة، وفى نفس الوقت لا أرى أن السينما مطالبة بفضح داعش ، أفلامهم كفيلة بذلك، فمن يتعطش للحرق وإراقة الدماء هو إنسان مريض نفسيا أو عقليا، ليس دور السينما ولا المهرجانات أن تتولى علاجه. لا أعتقد أن هناك اهتماما سينمائيا قادما بتلك الأفلام، لتشكل حالة تتهافت عليها المهرجانات مثلما حدث مع أفلام ثورات الربيع العربى، وكان آخرها ما عرضه مهرجان برلين الفيلم المصرى بره فى الشارع ، لن تُصبح داعش وما يجرى فى معسكراتها مجالا لكى يتسابق عليه السينمائيون، على الأقل أتمنى أن لا تحيلها السينما العالمية إلى شريط سينمائى متكرر. يجب أن ندرك أن هناك ولا شك بقعا حمراء تتناثر على ثوب الإسلام، لنعترف أن الميديا تلعب دورها فى تأكيد تلك الصورة، وهو ما يعنى أن هناك خطورة قائمة من استمرار تلك الممارسات التى تحيل الإسلام إلى مرادف للذبح والقتل والحرق، ولا يمكن فى كل مرة أن نلوم الغرب فى ترسيخ تلك الصورة النمطية عن الإسلام، كانت هذه هى إجابتى عن السؤال الأول. وانتقلنا إلى المهرجان وسر نجاحه على مدى 65 دورة؟ قلت لها الإجابة فى كلمة واحدة إنها دقة التنظيم، نعم هناك أفلام رائعة تابعتها فى المهرجان وفى كل الأقسام، وهذا يعنى أن جهدا مضاعفا قد بُذل، لكن ما يجعل هذا الجهد يمضى فى طريقه الصحيح هو أن التنظيم فى برلين يؤكد لك دائما أن كل شىء تحت السيطرة، معك أوراقك التى أرسلها لك المهرجان تتقدم للفندق، فتكتشف أنه لا مجال للخطأ، خريطة تُقدم لك من إدارة الفندق، لتعرف بالضبط أين أنت وكيف تتوجه، وجدول منتظم للعروض ومن يقترح عليك السير 15 دقيقة أو ركوب الأوتوبيس لتصل إلى مقر المهرجان، ويأتى الاقتراح مشفوعا بالإجابة، وهى أن الحركة كلها بركة، خصوصا فى عز البرد، وهو بالفعل ما حرصت على تنفيذه مرتين يوميا رايح جاى. ليس هذا هو السر الأول للنجاح، لكنه الجمهور، إنه مهرجان للناس أولا، عُشاق للسينما جمهور المهرجان هم المفتاح، هناك حفاوة وإقبال إعلامى تجاوز 5 آلاف ناقد وصحفى وإعلامى يتسابقون لملاحقة أفلام هذا الحدث العالمى، وبعيدا عما تثيره عادة النتائج، ما بين مؤيد إلى حدود الهتاف للجنة التحكيم، والمطالبة ببقائها مدى الحياة، وما بين مستهجن مشككا فى توجهها ومطالبا بإسقاطها فورا، هذه التناقضات فى الرؤية تظل من طبائع التقييم الفنى، الذى مهما وضعنا له من قواعد ومحددات، فالأمر يخضع فى جانب كبير منه إلى الذوق الشخصى، لا تصدقوا أن الموضوعية والقواعد الصارمة هى وحدها التى تملى إرادتها، هناك بالطبع معايير، لكن الإبداع يأتى ليهدم قاعدة مستقرة ليبنى على أطلالها إبداعا آخر، ولو أعدت تشكيل لجنة تحكيم -أى لجنة تحكيم- لحصلت بالضرورة على نتائج مغايرة. الصورة التى سكنت مشاعرى هى الجمهور الصانع الأول لهذا الشغف، الذى يمنح المهرجان خصوصيته كما رأيتها بين عشرات المهرجانات، ولو أحلت المشاعر إلى رقم لاكتشفت أن الإقبال يصل إلى نصف مليون تذكرة، عندما أعقد مقارنة بين مهرجانى كان و برلين أقول لكم بضمير مستريح إن الجمهور فى كان فى العادة لديه هذا الشغف بأفلام المهرجان، لكنه يعشق بنفس الدرجة رؤية النجوم، وهكذا تتم مطاردتهم من الفندق إلى السلم فى قاعة لوميير الكبرى المطل على شاطئ الريفييرا الساحر، هناك من يستيقظ مبكرا ليحجز لنفسه مكانا قريبا من السجادة الحمراء فى انتظار أن يرى فى المساء نجمه أو نجمته المفضلة، فى برلين هذا الشغف قائم بالطبع، لكن تدافع الجمهور لأفلام المهرجان هو الذى يسيطر على المشهد. الوجه الآخر للصورة وهو ما نراه فى عديد من المهرجانات العربية، خصوصا المقامة فى مصر، تكتشف أنها لعدد من النقاد والصحفيين، بينما الجمهور غائب، أين الناس؟ أقصد أصحاب الحق الأول فى إقامة المهرجان، لن تعثر عليهم إلا فى ما ندر. أتذكر قبل 30 عاما كانت الحالة مختلفة تماما فى مهرجان القاهرة، حيث إن الإقبال الجماهيرى كان صاخبا وتردد وقتها تعبير قصة ولا مناظر ، كانوا يقصدون الفيلم الذى به مشاهد جريئة وسمحت به الرقابة، فهو إذن مناظر، أما القائم على فكرة فهو قصة، ولن يشاهده أحد، تلاشى تقريبا كل ذلك فى السنوات الأخيرة، فلا قصة تثير اهتمام الجمهور، ولا مناظر تدفعه إلى قطع التذكرة. أتصور أن الهدف الأساسى لمهرجان القاهرة فى دورته القادمة مع تولى الباحثة والناقدة السينمائية الكبيرة ماجدة واصف المسؤولية، هو أن يعود الجمهور إلى المهرجان، وفى قول آخر يعود المهرجان إلى الجمهور، هذا هو سر النجاح فى برلين، إنه الجمهور صاحب الحق الأول والوحيد!