هناك انتقادات عديدة لنظام الدعم فى مصر، من أهمها أنه لم يؤدِّ إلى تقليل الفقر وأنه يوجَّه إلى الأغنياء لا إلى مَن يستحقه، وفى النهاية لا يؤدى إلا إلى عجز الموازنة. فى هذه المقالة سنحاول أن نقدم بديلا لنظام الدعم بالتركيز على الكهرباء كمثال، وسنشرح ذلك بشكل مبسط فأرجو من القارئ المتخصص أن يتحملنا. لنتخيل أربع شخصيات فى مصر: 1- السيدة وفاء سالم، أرملة بقرية كوم يعقوب بمركز فرشوط قنا، تتلقى معاش زوجها مع بعض المعونات، إلى جانب ربح متذبذب من بيع الجبن فيصل دخلها بالكاد إلى 500 جنيه شهريا، تدفع فى المتوسط فاتورة كهرباء 30 جنيها. 2- ننتقل إلى حى السيدة زينب حيث الأستاذ محسن جرجس، عامل فى مصنع أحذية فى السادس من أكتوبر، يحصل على 1500 جنيه شهريا. يدفع تقريبا 60 جنيها فاتورة كهرباء شهريا. 3- الثالث هو المهندس شريف مصطفى، يسكن حيًّا هادئًا فى الإسكندرية، ويعمل فى إحدى شركات الإنشاءات المرموقة ويتلقى 6000 جنيه شهريا، منذ عام تزوج ويدفع فاتورة كهرباء 200 جنيه شهريا فى المتوسط. 4- نصل إلى السيد نبيل الشرقاوى، رجل الأعمال، الذى يسكن فيلا من 4 طوابق فى الكوربة ويدفع شهريا 2500 جنيه ويترك 10 جنيهات كاملة بقشيشا للمحصل! إذا افترضنا أن تكلفة الكيلووات فى مصر جنيه واحد (سنعود للتكلفة لاحقا) ولو عدنا إلى قرار رئيس الوزراء رقم 1257 لعام 2014 وقمنا بتحليل فواتير هؤلاء المواطنين سنجد التالى: - تكلِّف السيدة وفاء سالم، بكوم يعقوب، الدولة 188 جنيها وتدفع 30 فتتلقى دعما 158 جنيها. - يكلِّف الأستاذ محسن جرجس، بالسيدة زينب، الدولة 317 جنيها ويدفع 60 فيتلقى دعما 257 جنيهًا. - يكلِّف المهندس شريف مصطفى، بالإسكندرية، الدولة 700 جنيه ويدفع 200 فيتلقى دعما 500 جنيه. - يكلِّف السيد نبيل الشرقاوى، الدولة (فى مسكنه فى الكربة، ولا نتحدث هنا عن شركاته) 3865 جنيها يدفع منها 2500 فيتلقى دعما 1365 جنيها. تأمَّل هذه الأرقام لدقيقتين حتى ترى كم نحن مجتمع عادل وحكومتنا تهتم بالفقراء! هل تظن أن ذلك ظلم؟! أضف إلى ذلك أن انقطاع الكهرباء ليس عادلا، فالسيد نبيل، فى الكوربة، لا يكاد ينقطع النور فى منزله ويكاد لا يستخدم المولِّد الذى اشتراه. بينما تضطر السيدة وفاء إلى ضرب ابنها حتى يستذكر حين يعود التيار لأنها تعودت على عدة انقطاعات يومية. السيد نبيل الشرقاوى رجل أعمال شريف، لكن جاره الذى يستهلك كهرباء مثله قد استطاع بشكل ما أن يقسم استهلاكه على عدة فواتير حتى يتمتع بدعم أكبر فهو يدفع لذات الاستهلاك 1440 جنيها فقط متمتعا بدعم يبلغ 2426 جنيها. هل سعر جنيه للكيلووات غير صحيح؟ ستتغير الأرقام وتظل المعادلة، فأقل التقديرات تتخطى أعلى شريحة استهلاك (74 قرشا). هل هذه الأوضاع مؤقتة وستعالجها الحكومة لاحقا؟ للأسف لا فإذا عدنا إلى قرار السيد محلب فسنجده يحدد سعر الكهرباء حتى عام 2019، ففى يوليو المقبل مع نفس الاستهلاك ستزيد فاتورة السيد نبيل 12% والمهندس شريف 61% والأستاذ محسن 55% أما السيدة وفاء فستدفع 74% زيادة. فعلا هى قرارات مدروسة جدا التى تتخذها حكومتنا الرشيدة! لكن حتى لا يتم انتقادنا بأننا ننقد دون بديل، فسنعرض هنا بشكل مبسط بديلا لذلك تم طرحه منذ التسعينيات على الأقل على حكوماتنا المختلفة. أولا- يتم إلغاء الدعم تماما، فيدفع السيد نبيل 3865 جنيها بدلا من 2500، وتدفع السيدة وفاء 188 جنيها بدلا من 30. هذه الخطوة لو تمت وحدها فستقوم ثورة الجياع التى ننتظرها فى خوف، لذلك يجب القيام فى نفس الوقت بالتالى: السيد نبيل لا يستحق بل لا يريد الحصول على دعم (بعكس جاره) بل يمكن فرض ضريبة على استهلاكهما المرتفع فيقل عجز الموازنة، وسيدفعه ذلك إلى إغلاق التكييف عندما يغادر الفيلا فيقلل هو وأقرانه الضغط على الشبكة. المهندس شريف مصطفى أيضا لا يستحق دعما.. إلغاء الدعم سيدفعه إلى ترشيد استهلاكه أفضل من كل الإعلانات عن التوفير، فالمحفظة دائما أقوى. الأستاذ محسن يستحق الدعم المقدم له، فستزيد فاتورته 257 جنيها وستقدم الدولة له نفس المبلغ كدعم نقدى. أى أن الحكومة ستتكلف نفس المبلغ، لكن الأستاذ محسن سيعلم الآن هو الآخر كم تُكلفنا الطاقة وسيوفر استهلاكه بما يوازى 150 جنيها مثلا كأن دخله زاد مما سيوجهه إلى طعام وملابس أفضل لأولاده كما سيقل الضغط مرة أخرى على الشبكة. أما السيدة وفاء فحالتها البائسة مسؤولية الحكومة ومعها المجتمع كله. فمع زيادة فاتورتها بمقدار 158 جنيها يجب أن تحصل على دعم نقدى بمبلغ 250 جنيها وهى تستحق أكثر بالطبع. عندما يتحول الدعم إلى أموال أكثر فى جيوب الفقراء سيزيد استهلاكهم من السلع الأساسية (طعام، ملبس، تعليم وصحة) وأغلبها من السهل إنتاجها محليا، فهذا سيحفّز السوق، ويقلل البطالة ويزيد حصيلة الضرائب. وعلى العكس حاليا حينما يكون الدعم محملا على الكهرباء سيؤدى إلى استهلاك أكثر ووفرة مالية للطبقات المرتفعة تشترى بها سلعا أغلبها مستورد. ما الذى ينقصنا لتطبيق ذلك؟ نحتاج إلى بيانات مفصَّلة عن دخل الأفراد فى مصر، ولا تمتلك الحكومة ذلك حتى الآن. نحتاج إلى أن نعرف كم هى تكلفة إنتاج الكيلووات فى مصر، وأنا أتحدى السيد وزير الكهرباء إن كان يستطيع تحديد هذا الرقم، فوزارة البترول تبيع الوقود لوزارة الكهرباء بأسعار مدعمة (هناك اختلاف معقد جدا بين الوزارتين على تحديد هذا السعر أصلا) كما لا يتم حساب تكلفة الضرر البيئى للوقود الأحفورى الذى ندفعه من صحتنا، فعلى أىّ أساس تحسب التكلفة يا سيادة الوزير؟ لكن قبل علاج سرطان نقص البيانات الضارب فى مؤسسات مصر، نحتاج أولا إلى رغبة فى إصلاح الميزان المقلوب قبل أن ينقلب الوضع إلى ثورة جياع لا تعرف كلمة سلمية .