منذ ربع قرن أو يزيد شرعت فى كتابة رواية لم تكتمل أبدًا حتى يومنا هذا، ولم أفهم الأمر، حتى حدث زلزال 25 يناير، ففهمت ما كتبت منذ ربع قرن لأول مرة، لقد كانت رؤيا كتبتنى ولم أكتبها، تبدأ الحكاية فى ميدان التحرير الذى كان به قاعدة تشبه قاعدة تمثال لا أذكر موضعها أو إن كانت موجودة حقًا ومتى اختفت، وقد استيقظ سكان العاصمة على شخص مبهم غامض يشع سحرًا وجلالًا وأبهة وقد اعتلى تلك القاعدة الحجرية جامدًا كتمثال يشخص إلى السماء كأنه ينتظر وحيًا ما!! اندهش الناس فتوقفوا وتحلقوا ليستطلعوا الأمر، وليعرفوا ماذا يريد هذا الشخص من وقفته تلك، ونظروا إلى السماء حيث ينظر فوجدوها سماءً رمادية عادية، وانتظروا من الرجل أن ينزل بصره من السماء إلى الأرض ويتكلم فلم يحدث، وامتلأ الميدان بالناس الذين جاؤوا من كل صوب وتحلقوا حول الرجل الذى ما زال شاخصًا إلى السماء حتى شعر الناس بأنه يرى ما فوق السموات السبع وسدرة المنتهى، أو أن السماء ستنشق حيث ينظر لتسقط منها الملائكة والشياطين، توجهت كل عيون الناس إلى الرجل الذى رأى فيه بعض الناس المسيح المخلص، ورأى آخرون أنه النبى محمد شخصيًّا، واختلف الناس عن هوية هذا الشخص الغامض، لكنهم اتفقوا على النزول إلى الميدان وتحلقوا حوله وباتوا ليالى سبع رغم حظر التجوال وحصار الميدان بدبابات الجيش التى وجهت مدافعها إلى الميدان فى انتظار أوامر الرئيس وحكومته المجتمعة بالمطار وحاشيتهم من رجال الأعمال والمصرفيين، وكانت الطائرات مصطفة على مدرج المطار على أهبة الاستعداد للهرب، وكان الرئيس يشاهد التليفزيون الذى ينقل الوقائع الحية، وكانت ميكروفونات الشؤون المعنوية للجيش تزعق فى الناس بأن عودوا إلى بيوتكم.. أنتم تخرجون على الشرعية وعلى القانون.. عودوا إلى بيوتكم، فوجئ الناس بشخص يهجم على ميكروفون عربة الشؤون المعنوية ويخطفه ويصعد به إلى مكان فى الميدان وزعق بعلو صوته فى الناس.. لا تعودوا إلى بيوتكم.. إلى قبوركم.. إلى مللكم وبطالتكم وفقركم وقهركم وخنوعكم وانتظار ما لا يأتى.. ما الذى خرجتم منه لتعودوا إليه؟ أنتم لم تخرجوا من، بل خرجتم على.. فإلى ماذا تعودون؟ أنتم لم تخرجوا من الوطن كى تعودوا إليه.. الوطن هو بيتكم وليس علب الكبريت والجحور والشقوق التى أسكنكم فيها فسادهم وجشعهم، نحن لم نخرج من الوطن، بل خرجنا إلى الوطن، لسنا متمردين ولسنا خارجين على الشرعية، فلا يمكن لشعب بأكمله أن يكون خارج على الشرعية والقانون، بل هم من داسوا الشرعية والقانون بالحذاء، من حق الشعوب أن توقف الزمن، من حق الشعوب أن تخرج على القانون بقانون جديد، حتى ولو لم يكن ما تريدونه واضحًا فى تلك اللحظة، فيكفى أنكم أوقفتم الزمن لبرهة حتى يتضح ما خرجتم من أجله، الشعوب فقط هى القادرة على أن توقف الزمن، لسنا مجرمين، لا يوجد شعب مجرم إلا فى حالة واحدة فقط، عندما يخرج على شعب آخر ليحتله ويستعمره، أما أنتم فقد خرجتكم إلى الوطن لتحتلوه وتستعمروه، أليس هذا من حقكم؟ بل هى حقيقتكم، فأهلًا باحتلال الوطن واستعماره، بوركتم أيها المستعمرون أوطانكم، سيخلدكم التاريخ فى هذه اللحظة الفارقة، لحظة الخلود هى لحظة إيقاف الزمن ليبدأ كتابة تاريخ جديد، بوركتم أيها المخلدون.. فى المطار كان الرئيس الذى يشاهد التليفزيون ويسمع كلام هذا الرجل ولا يفهمه فسأل بعض مقربيه.. ما الذى يقوله هذا الرجل، أنا لا أفهم شيئًا مما يقول!! فرد عليه أحدهم إنه كلام الأفندية المثقفين الأرازل سعادتك وهم يتكلمون كما يكتبون ولا خوف منهم، لا توليه اهتمامًا سعادتك.. فسأل الرئيس.. هل هذا هو الزعيم؟ فأخبروه بأنهم لو عرفوا الزعيم لتخلصوا منه وانتهى الأمر سعادتك، ولكنهم لم يعرفوا لهذه الثورة زعيمًا حتى الآن وجار البحث والتحرى سعادتك.. كان أمرًا غريبًا جدًا أن يرى الشعب كله الشخص الغامض وسط الميدان الذى جذب حوله كل الناس ويراه الناس ولا يراه الرئيس ولا حكومته ولا جيشه ولا داخليته ولا المشايخ ولا الأئمة والأنبياء الأدعياء الذين سيطروا على الناس زمنًا طويلًا، حتى حدث أمر غير مفهوم، ولسبب ما رأى أحد الضباط القناصة الذين يحيطون بالميدان من فوق الأسطح رأى لأول مرة الرجل الغامض الذى يتوسط الميدان والناس يتحلقون حوله يفترشون الأرض، فأطلق القناص رصاصة قناصته مستهدفًا القلب فأصابه فى مقتله، وسمع الناس الرصاصة تدوى فى صمت الميدان ورأوا الرجل الغامض يتحلل جسده على الفور إلى فراشات صغيرة كثيرة بلون اللحم والدم والعظام، فراشات كثيرة بلون العلم جسدها أبيض ولها جناح أحمر وجناح أسود طارت فى السماء وحجبت قرص الشمس وحطت فراشة بلون العلم فوق رأس كل واحد من الناس الموجودين بالميدان الذى صمت وسكن وتجمد وقد أصاب الناس السحر.. فأقلعت الطائرات من المطار.. وتزلزل النظام. وبعد أكثر من ربع قرن، وفى 25 يناير بالتحديد، تم تفسير الجزء الأول من الرؤيا، وبعد عام على الثورة عرفت تفسير نهاية الرؤيا، أن للثورة زعيمًا، وأن زعيمها هو العلم الذى حط فوق الرؤوس فراشة بلون لحم ودم وعظم وشعر وعيون الشهداء، زعيم الثورة هو العلم الذى ما زال محاصرًا فى الميدان وتستعد المدرعات لسحقه وإسقاطه رغم علمهم بأن هزيمته شبه مستحيلة، لأن الموت تحت العلم هو استشهاد وكرامة وأمنية، وأن سحق العلم يعنى ببساطة سحق الوطن، وقتل الفراشات يستوجب المحاكمة الجنائية الدولية، للثورة قائد هو العلم، قائد كل قائد، ومرشد كل مرشد، فلا تسقطوا العلم، لأنه إن سقط يسقط كل الوطن، ولا ترفعوا شيئًا سوى العلم، لأنه إن ارتفع ارتفعتم، لا تحملوا على أعناقكم سوى العلم، لأنه الوحيد الذى يكرم أعناقكم، لا تسقطوا العلم، فهو قائد الثورة.